شعار قسم مدونات

حوار بين الوعي والعقل

مدونات - إنسان

العقل: إذاً، فأنت ترى أنك كل شيء. العالم والأفكار وأنا وكل ما يُمكن أن يوجد، جميعا مجرد أشياء فيك، أو خصائص لك. فأين توجد أنت؟
 

الوعي: أنا لا أُوجد، فالوجود إدراك، والإدراك جزءٌ مني. الذي يوجد هو الأشياء، المعطيات الحسِّية والأفكار، وهي تُوجد فيّ أنا، في الوعي. ولا معنى بعد ذلك للقول أين يُوجد الوعي. فالسؤال هُنا أشبه بالسؤال أين يوجد "الوجود".
 

العقل: ولكنك في النهاية محدَّد بواسطة هذه المعطيات الحسِّية والأفكار والزمان والمكان. فأنت موجود هُنا والآن، محدود بالمعطيات الحسية التي تحيط بك، بالأفكار التي فيك. إذن يُمكن رسم حدود لك، ويُمكن تعيين أشياء وأفكار كثيرة توجد خارج حدودك، فأنت جزء ولست كل شيء. 
 

هل يمكنك أن تتصور نفسك موجودا لولا وجود عالم وإنسان ودماغ؟ فهناك على الأقل علاقة أسبقية منطقية، لا يُمكنني أنا – كعقل- أن أتصورك بدونها

الوعي: ينبغي أن تفرِّق بين الوعي، وصورة الوعي في الوعي، أي صورته بالنسبة لنفسه. فالصورة ليست هي الأصل، وإن الذي يتحدد بالزمان والمكان، هو صورة الوعي أو فكرة الوعي عن نفسه.

وحينما يكون الوعي فكرة، فهو يوجد محايثا للأفكار الأُخرى، وللأشياء أيضا. ولكن الوعي كفكرة والأفكار والأشياء الأُخرى كلها توجد في الوعي كشيء في ذاته. فعندما أدرك نفسي كوعي في الزمان والمكان أي في التاريخ، عندما أدرك نفسي كشيء له بداية، ومسار في الزمان والمكان، فإن هذا الإدراك هو فكرة أكوِّنها عنِّي، ولكن الذي يُكوِّن والذي يُدرِك هو شيء مختلف عن المكوَّن والمُدرَك، حيث أن الأخير معطى في الأول، فالفكرة توجد في الوعي، ولكنها ليست هي الوعي، وذلك حتى لو كانت هي فكرة الوعي عن نفسه.
 

العقل: هناك اتجاه يرى أن الوعي بحد ذاته مجرد فكرة. بكلمة أدق، وهم. هناك عالم وهناك إنسان وهناك دماغ إنساني، وما أنت أيها الوعي إلا ظاهرة عرضية.
 

الوعي: ينبغي على العقل أن يكون أعقل من هذا! إن كلمات مثل "فكرة"، "وهم" معناها يتحدد بواسطتي أنا الوعي، فما هو فكرة وما هو وهم هو كذلك بالنسبة لي أنا. ولا معنى لأن أكون وهما بالنسبة لنفسي. لا معنى لمناقشة حقيقة الوعي، أو أصالته. فحتى لو كنتُ شَبحا، فإن العالم والإنسان ودماغ الانسان هي معطيات حسية في النهاية، وهي توجد بحوزتي كإدراك، وكمعرفة. وأنا الذي أتساءل، بواسطتك أو بسببك أيها العقل عن وجود هذه الأشياء خارج حدودي.
 

العقل: حسنا، لنترك جانبا قضية حقيقتك، ولنحصر نقاشنا حول مسألة الوجود. وجودك والأشياء الأُخرى. هل يمكنك أن تتصور نفسك موجودا لولا وجود عالم وإنسان ودماغ؟ فهناك على الأقل علاقة أسبقية منطقية، لا يُمكنني أنا – كعقل- أن أتصورك بدونها. في البدء كان العالم والزمان والانسان ثم الوعي.
 

الوعي: هذا الترتيب صحيح بالنسبة للصورة التي أصنعها -بواسطتك- لنفسي. وقد أسلفت القول أن هذه الصورة هي فكرة، وهي توجد ضمن مسرح الوجود كمعطى في الوعي. فأنا أتصور الكون والعالم والتاريخ، في حدود معرفتي، وأموضع نفسي-أعني صورتي- ضمن هذا المسرح. ولكن المسرح نفسه فكرة فيّ.
 

العقل: هذه فكرتك الوحيدة نفسها، تظل ترددها بأشكال مختلفة. المسرح فكرة، الوجود فكرة، الوعي نفسه- أنت -فكرة! ألا ترى أنك تسمي كل الأشياء فكرة لتسلبها أصالتها، ولتبقى أنت وحدك كل شيء!

لقد ذكرت قبل قليل ذكرت عبارة " في حدود معرفتي". ألا ترى، بما أن هناك حدود لمعرفتك، فإن هذا يعني وجود شيء آخر خارجا عنك، هو ما ستعرفه. فما دامت هناك معرفة وهُناك إدراك فإن هذا يعني أنه على الأقل هناك أشياء أصبحت مدركة ومعروفة بعد أن لم تكن كذلك، ويعني بالتالي أن هُناك ما وراء للوعي، هناك عالم حقيقي ومستقل عن الوعي، حتى لو كُنا لا نستطيع الوصول اليه.
 

الوعي: أولاً، أنا لا أقول إنني فكرة، بل أقول أن هناك فرق بين فكرتي عن نفسي التي هي شيء يوجد فيّ، وبيني أنا الوعي الذي يحوي جميع الأفكار بما في ذلك فكرتي عن نفسي. 

أما بخصوص "حدود معرفتي" فأنا لا أنكر وجود عالم حسي تأتي منه المعرفة، فهذا العالم الحسي موجود كمعطى حِسّي. ولكنه يوجد على المستوى الإدراكي بالنسبة لي، مثلما أن فكرتي عن نفسي توجد على هذا المستوى أيضا، مستوى الإدراك.

الاختلاف الوحيد هو أن الأول إدراك حسي والأخير ذهني. ومن هُنا فإن الخطأ الذي تقع فيه أيها العقل هو أنك ترى أن وجود صورتي في نفس مستوى وجود المعطيات الحسية، أي في الإدراك، فتقضي بأنني أنا نفسي موجود على ذات المستوى، وتنتهي إلى الحكم بمحدوديتي إزاء العالم والأشياء.
 

العقل: ولكن القضية ليست حول وجود الأشياء بالنسبة لك كمدركات حسيّة، أو وجود الأفكار فيك كمدركات ذهنية. وإنما في وجود هذه الأشياء بمعزل عن ادراكك لها، فلكي تدركها أنت، يجب أولا أن تكون هي موجودة، بمعزل عنك. هذه هي القضية.
 

الوعي: هي موجودة ليس بمعزل عني، وإنما بمعزل عن صورتي، بمعزل عن فكرتي حول نفسي. فأنا أرى نفسي، في صورة الوعي الذي يدرك أشياء توجد بمعزل عنه، والوعي الذي يعرف أشياء هي موجودة قبل أن يعرفها وهي ستكون موجودة حتى لو لم يعرفها. هذا المسرح الذي يحوي صورتي كذات عارفة أو مُدرِكة تُوجد في مكان وزمان وتاريخ، هو أيضا ليس شيئا خارج حدودي.
 

 إن الأمر أشبه بأن ترى صورة نفسك في مسرح، ضمن عالم من الأشياء والأحداث ثم تلغي وجودك كمشاهد لتتماهى مع صورتك، لتقول هذا أنا، ذلك الشخص الذي يوجد ضمن ذلك العالم، ضمن هذه الأشياء والأحداث، هو أنا! بهذه الطريقة تلغي وجودك الحقيقي لتختزل نفسك في صورتك.
 

العقل: إن الفرق بين الوعي وصورة الوعي في الوعي هو نفس الفرق بين "العالم الحقيقي" وصورته في الوعي. فلماذا لا تطبِّق نفس المبدأ وتقول إن الذي يوجد فيك هو صورة العالم، بينما العالم الحقيقي يوجد خارجك مستقلا عنك؟
 

الوعي: إن الذي يوجد في حدودي كإدراك هو الأصل، هو "العالم الحقيقي". وما تفترض أنه يُوجد ما وراء الإدراك خارج حدودي، والذي تقول إنه "العالم الحقيقي" هو في الواقع مجرّد صورة. بعبارة أُخرى، العالم الحِسّي، هو العالم الحقيقي. أما العالم الذي تفترضه أنت أيها العقل، وتقول بأنه موجود بمعزل عن حضوره كإدراك في حدودي فهو الصورة، لأنه عالم مفترض.
 

العقل: ولكني أسمو فوق الحِسّ. أنا الذي أحكم وأقضي بمشروعية المعطيات الحِسّية التي توجد فيك. فأقول إن هذا الإحساس هو إحساسٌ حقيقي، وذاك إحساس غير حقيقي وزائف، أو وهم. فأنت قد تحتوي معطيات حسّية هي في الحقيقة مجرد أوهام. مثلا أصوات أو صوَر أو كائنات لا وجود واقعي لها، توجد فيك أنت فقط. أنا الذي أقضي بعدم وجودها في الواقع الحقيقي. فأنا الذي أميّز ما هو حقيقي فيك وما هو وهم. 
 

إنني كوعي من حيث أنا كذلك، أي من حيث هُويتي كشيء في ذاته، لا أتعدد ولا أختلف. إن التعدُّد- كما تقضي قوانينك أيها العقل- لا يكون إلا في إطار وجود واحد يجمعه

الوعي: حقيقة الأمر هي أنني أحتوى على معطيات ومواضيع مختلفة. مواضيع حسّية، شعور، أفكار، خيال، كلها توجد فيّ. وعندما تقوم أنت بالتمييز بينما هو حِسّي وما هو خيالي أي غير موجود في الواقع الحِسّي، فأنت لا تفعل ذلك بقدراتك الذاتية المجردة، وإنما تقوم بعقد مقارنة بواسطة الحِسّ نفسه. وفي الواقع فإن الحسّ هو الذي يقضي بأن الخيال لا وُجود له في الواقع الحِسّي. وإذا تصورناك عقلا مجردا بدون أي معطيات حسِّية، فلن تستطيع التمييز بينما هو خيالي وما هو واقعي أي حِسِّي، لأنك لن تملك حينها ما تقيس عليه.
 

العقل: وأنت أيضا أيُها الوعي إذا تصورناك بدون محتوياتك، بدون المحسوسات والشعور وأنا والأفكار واللُّغة، ماذا تكون؟ هل أنت شيء مختلف عن هذه المحتويات؟
 

أنت تقول إن كل شيء يُوجد فيك، بما في ذلك المعطيات الحسية التي كُنت تجهلها، العوالم الجديدة التي يكشف عنها العلم الانساني، المعرفة التي يمدك بها البشر الآخرين، هذا الكون الهائل اللانهائي، والذي أنت عبارة عن جزء لا يكاد يُذكر فيه. كل هذا الوجود تراه أنت مثل فكرة أو طيف عابر فيك، بينما الواقع هو أنك انت الطيف العابر في هذا الوجود مثل ومضة.
 

الوعي: لقد أجبت سلفا على بعض اعتراضاتك هذه، ولكن جميلٌ أنك جئت على ذكر البشر الآخرين. أنا واحد. أنت تحاورني كوعي في ذاته، لا كصورة محددة بتاريخ وإنسان. وإذا كُنت تريد الوعي كصورة، كمضمون مرتبط بإنسان محدد، فيتوجب عليّ أن ألغي وجودي الحقيقي كوعي في ذاته لأتماهى مع صورتي بالطريقة التي أوضحتها سابقا، صورتي التي في مسرح الوجود. في هذه الحالة ستكون أمام صورة للوعي ينطبق عليها تحديدك. تلك الصورة هي ذلك الطيف العابر.
 

إنني كوعي من حيث أنا كذلك، أي من حيث هُويتي كشيء في ذاته، لا أتعدد ولا أختلف. إن التعدُّد- كما تقضي قوانينك أيها العقل- لا يكون إلا في إطار وجود واحد يجمعه. إن الوجود لا يتعدد، لأنه لو تعدد لن يكون وجودا، بل سيكون موجودا ضمن موجودات أُخرى يجمعها وجود واحد أكبر وأشمل. وأنا هذا الوجود الواحد. لأن كل شيء يوجد فيّ.
 

أما عن سؤالك كيف ستتصورني إن اختفت محتوياتي بما فيها الأفكار واللُّغة وبما فيها أنت أيضا أيها العقل. أقول لك لن تتصورني، لأنك من المفترض أن تختفي أنت أيضا ضمن ما يختفي مِنّي، ولن تستطيع أن تتصوَّر شيء يقتضي عدم وجودك أنت نفسك. أي لن تستطيع أن تتصوَّر عدمك. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.