شعار قسم مدونات

تمثال الحرية وصراع الأنا

blogs - تمثال الحرية وترمب
أن يخرج عشرات الآلاف من الغاضبين الرافضين لرئاسته في ليلة تنصيبه على كرسي الإدارة الأميركية، فهذا ما لم نقرأ عنه في تاريخ الولايات المتحدة منذ جورج واشنطن 1732 إلى السيد أوباما 2016، لا أحد يختلف على أن كل رؤساء الولايات المتحدة جميعهم اتفقوا على البدايات واختلفوا في النهايات، اتفقوا في يوم تنصيبهم واختلفوا في يوم وداعهم، ففي يوم تنصيبهم نالوا تصفيق الغالبية العظمى، ومن لم يصفق فقد اكتفى بالمشاهدة، بعضهم كانوا أبطالاً، أنقذوا الولايات المتحدة من كوارث شاملة. بينما كان آخرون هم أنفسهم الكارثة، فجُلُّهم كانت بداياتهم تحفُل بشعبية كبيرة، أثناء مسيرتهم وبأدائهم وإنجازاتهم، البعض استطاع أن يزيد من رصيده والبعض بدأ عالياً، ثم ما لبث أن طويت صفحته بما حفلت من إخفاقات.

الولايات المتحدة التي تتخذ من تمثال الحرية إلـهاً تقدسه بأفكارها هي من انتخبت السيد أوباما، وقتها أيقن العالم أنها طلقت التمييز والعنصرية طلاقاً بائنا لا رجعة فيه، ولكن حين اعتلى السيد دونالد ترمب إدارتها عادت العنصرية بوجهها القبيح تطل من نوافذ قراراته في انتكاسة خطيرة. وبين طلاق العنصرية بإطلالة السيد أوباما والانتكاسة خطوات للخلف، فبعودة السيد دونالد ترمب يتبين لنا أن المجتمع والحضارة الأميركية في خطر.

إن انتهاج سياسة العنصرية المتغطرسة ضد الآخرين التي يؤمن بها السيد ترمب بداعي المحافظة على الأمن القومي، بكل تأكيد لها ضريبتها الداخلية، فقد تؤدي إلى انقسام مجتمعي داخلي.
فلأول مرة في التاريخ الأميركي يأتي رئيس جديد والضمير الأميركي منقسم حول سياساته، بل هناك ولايات تهدد بالانفصال، وبدلاً من لملمة ثقة الشعب الأميركي على سياسته، نجده كل يوم يتجه نحو الانقسام، بانتهاجه سياسة ملؤها العنصرية التي تفوح منها رائحة الكراهية، مخالفاً الدستور الأميركي والقيم الإنسانية، بل لا نذهب بعيدا إذا ما قلنا أنه يخالف الفكرة القّيّمة التي قامت عليها الولايات المتحدة ذاتها، ومن ثمّ يهدم جوهر وعقل ما تبقى من ضمير الأمة الأميركية الذي بدأ يتآكل بفعل تسونامي التمحور حول القومية "فكرة الأنا" الذي بدا يغزو العقل الغربي، وبدا جلياً حين ابتعدت بريطانيا عن شركائها الأوربيين وقد تلحق بها شعوب أخرى.

السيد ترمب يستحق أوسكار أكثر الرؤساء الولايات المتحدة إثارة للجدل بين مؤيديه قبل معارضيه نتيجة سياستة المشبعة بمنطق الغطرسة والربح دون خسارة، كتاجر سلاح لا يصاحب ولا يصادق، إلا من سيجني من ورائه مزيدا من الدولارات.

إن انتهاج سياسة العنصرية المتغطرسة ضد الآخرين التي يؤمن بها السيد ترمب بداعي المحافظة على الأمن القومي، بكل تأكيد لها ضريبتها الداخلية، فقد تؤدي إلى انقسام مجتمعي داخلي، بين فريق ما زال يؤمن بقيم الحرية والمساواة والانفتاح على الآخرين؛ متخذا من تمثال الحرية رمزا وهوية له، وفريق متلبس بهاجس الخوف من الآخر، وضرورة التمحور حول المصلحة الذاتية وفكرة الأنا أولاً في مخالفة فكرية عميقة تؤسس لهدم القيم التي قامت عليها الإمبراطورية الأميركية.

من المعروف أن التاريخ الإنساني شهد ميلاد مئات الإمبراطوريات العظمى، استطاعت أن تفرض نفوذها وهيمنتها على أجزاء كبيرة من العالم، بما تمتلكه من قوى مادية وناعمة، ناهيك عن وحدة المصير والفكر.

هل يشهد القرن الحالي اندثار إمبرطورية من أعظم الإمبراطوريات التي شهدها تاريخ البشرية بفعل الانزلاق نحو الهاوية نتيجة الانقسام الفكري بين مكوناتها كأحد أخطر عوامل الضعف والتآكل الداخلي مع استمرار السيد ترمب في السلطة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.