والآن بعد مرور سنوات عديدة ومياه كثيرة تحت جسر الشرق الأوسط، وما تبع ذلك من فشل شنيع لأغلب الثورات بل ونشوء فوضى في أعقابها، اتضحت الصورة لمن ينظرون من شباك القصور بأن الريح التي خافوا منها قد مرت بسلام وتبددت، وأن الناس الذين ثاروا للإصلاح قد تململوا من الحروب والفوضى، وأن ما ظنوه ربيعا طويلا مشرقا انتهى وخفت بأسرع مما توقعوه. فبدأت مرحلة الارتداد السريع عن فتات ما سبق من الإصلاح؛ فقابلوا الزيادة في المرتبات بزيادة في الأسعار والضرائب، وقابلوا التنازلات السياسية بمزيد من قبضة أمنية وتنكصوا عن حوار كانوا هم أصحاب المبادرة فيه.
وساهم في ذلك التغييرات العالمية في شمال المتوسط وغرب الأطلنطي والتي تتوجه بشدة نحو الشعبوية والتطرف ضد المسلمين.
سكب من الدماء ما يكفي للتعقل، وضاع من الموارد والأوقات ما يستدعي التمهل قبل التفكير في أي خطوة نحو التغيير. |
فأصبح الميدان خاليا للمستبدين وصمت ما يسمى العالم الحر، واكتفوا بالتنديد الخجول أحيانا وبدعم الانقلابات سرا أحيانا أخرى، وتعب لسان الأمين العام للأمم المتحدة من التعبير عن قلقه، ومد أمراء الحرب ألسنتهم نحو الشعوب وعمت الفوضى في المنطقة شرقا وغربا، وصارت الدول بين منهارة منقسمة إلى عدة دويلات، وبين دول على شفير جرف هار.
يتصور جون قراي المفكر البريطاني بأن التاريخ لا يسير في مسار خطي بل هو كالفصول الأربعة، وبناء على رأي غراي يبدو أننا في فصل الصيف الحار الذي يتوقع أن يستمر طويلا طبقا لمناخ المنطقة المتقلب حتى إشعار آخر، فالمستقبل ليس مشرقا لا على المستوى القريب ولا على المستوى البعيد.
على كاهل النخب السياسية في المنطقة عبء ثقيل لحلحلة حبال الفوضى والبحث عن مخرج لهبوط ناعم يحافظ على ما تبقى من الدولة ويجمع شتات مجتمع منقسم يوشك أن يأكل بعضه بعضا. وإلى حدوث ربيع آخر، فإن جرد الحساب لما سبق صار ضرورة تجنبا لتكرار ما حدث، فقد سكب من الدماء ما يكفي للتعقل وضاع من الموارد والأوقات ما يستدعي التمهل قبل التفكير في أي خطوة نحو التغيير.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.