شعار قسم مدونات

لكنّه لا يصلي!

blogs-صلاة الفجر
منذ أن كنت في سنواتي الأولى، حتى بضع سنوات بعدها، وأنا أفهم أنّ الصلاة هي الفحص الطبي الأخير الذي يضمن ويؤكد إمكانية البقاء على قيد الحياة لأي مولود بعد سنوات قليلة من ولادته. اجتزت الاختبار بنتيجة إيجابية في سن مبكرة، غير أن هذا الفحص لا يُجرى لكل منا بالعمر ذاته؛ فهذا يعتمد على طريقة الوالدين في إيصال الفكرة عنه، منا من أُمر ليأخذ الفحص ابن سبع سنين، ومنا من ضرب عليه ابن عشر، فحص يضمن لك البقاء على قيد الحياة يستحق أن تجبر عليه إلى أن تدرك سره ويختاره قلبك!

مضت بي السنين سنة تتبعها الأخرى، وعندها كانت المفاجئة، خدعتني أمي! عدد من زملائي بالصف بذات عمري، نعم إنهم لا يزالون على قيد الحياة لكنهم "لا يُصَلُّون"! كانت الفاجعة تليها بسنوات قليلة عندما اتسع عالمي ومجتمعي فأصبحت أجد عددا هائلا من هذا النوع، ظننت أنهم يحصلون على فرصة أخرى ليُصَلُّوا وبعدها لا مزاح وسيفقدون الحياة، لكن لم يحدث! كانوا يَصِلُون إلى أعمار متقدمة وهم على قيد الحياة، ليس هذا فحسب، بل ويحققون تقدما ونجاحات مستمرة!

عن أي سكينة يتحدث مقبوض القلب الذي لم تنادي شفتاه يوما ب"أرحنا بها يا بلال"؟! كل تلك النجاحات التي حققها دون صلاة ماهي إلا كلوحة آسرة لأنظار  من يراها ولكن لا يعلم قصتها أو ما وراءها من مآس وحزن.

لا يمكن لي في هذا العمر أن أفكر بذات التفكير الذي كنت أفكر به في سنواتي الصغيرة بأنّ ما أراه قد يكون مجرد أرواح أولئك الذين فقدوا حياتهم منذ زمن. حين كنت أراهم وأقول في قرارة نفسي: "هذا مسكين إنه ذكي جدا لكنه فقد الحياة، مسكينة هذه جميلة جدا لكنها فقدت الحياة، لو أنها سجدت مرة واحدة على الأقل؟ لكن للأسف الماضي لن يعود بالتمني!".

في هذا الوقت لا مجال للتفكير بهذه الطريقة، كان يجب أن أعرف الحقيقة، وعرفتها نعم، ما كانت الحقيقة إلا إنهم كانوا على قيد الأوكسجين فقط، ولكنهم لم يكونوا يوما على قيد الحياة! كل أولئك الذين لا يُصَلُّون لم يعرفوا للحياة طعما، لم يعرفوا لاضطراب القلب دواء، يكابرون بادعائهم السعادة! كل تلك النجاحات التي جنوها ما هي إلا نجاحات واهية دنيوية، وليتهم حتى يملكون الدنيا؛ بل لم يعرفوا بها شيئا من السعادة!

أي سعادة تلك التي سيمتلكها شخص لم يتصل بخالقه ولم يبح له عما في قلبه أو يودعه أمنياته في سجوده؟! أي سعادة تلك التي سيمتلكها شخص ليس بينه وبين شهواته رادع؟! عن أي سكينة يتحدث مقبوض القلب الذي لم تنادي شفتاه يوما ب"أرحنا بها يا بلال"؟! كل تلك النجاحات ماهي إلا كلوحة آسرة لأنظار كل من ينظر إليها ثم لا يعلم قصتها أو ما وراءها من مآس غير صاحب ريشتها، حتى إذا ما اختلى بنفسه علم أنه مقبوض كئيب، ناجح خاسر، وإن كان طبيبا أنقذ حياة الملايين من الناس أدرك أنه بأشد حاجته لمن ينقذ حياته التي تحتضر، أدرك بألا دواء لداء قلبه إلا بالصلاة.

بطريقة أو بأخرى جميعنا يؤمن أنه يعمل لآخرته، يقول أنه لا يترك خيرا إلا ويشارك به، لا يفوته عمل تطوعي إلا وترك بصمته به، لا يعتب عليه فقير أو يتيم، لا يكرهه أحد، لا يعاديه جار أو قريب، ساهم ببناء مسجد ما؛ لكنّه لا يصلي!

 المسألة أشبه بأسئلة الإجابة النهائية (final answer) التي تأخذ بها العلامة على إجابتك النهائية فقط مهما كانت الخطوات التي استخدمتها. قد تخطئ بإحدى الخطوات النهائية، حينها ربما، أقول ربما تكون قريبا جدا من الإجابة المطلوبة وتحصل على العلامة، لكن ماذا إن كان الخطأ بالخطوة الأولى؟! بالصلاة، بعمود الدين، بأساس الحياة وبنيانها، بحبل الوصل المباشر بينك وبين الله، براحة القلب وسكينته وطهره، بقُرَّة العين، حينها كل ما بعد ذلك لن يكون إلا هباء منثورا! أعلم أنك دوما ما أردت النور؛ لكنّك يا أخي لا تصلي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.