شعار قسم مدونات

هي.. وذاكرة الماء العربية

blogs - مخيمات اللاجئين
بينما هي تحترق بالموصل وتختنق بدمشق وتموت باليمن وتغيب بليبيا وتنصهر بمصر، كانت هي في عالم موازي تغازل أفئدة غاوية بخصرها، تتمايل على المسرح حتى تسقط مع آخر بناية ظلت صامدة بالموصل؛ ليمتزج صراخ ساكنيها بدوي رصاصات في فلسطين لتجثو هي على ركبتيها في حلب مغادرة خزي العرب وعارهم. وبينما هي التي على المسرح وهى التي تذبح كما بين أحمر شفاهها الرخيص ونطاق أسماء بنت أبي بكر!

ذاكرة قلمي قوية هذه الليلة وهى لا تترك مجالاً للنسيان أو المراوغة، تطالعني هي في سوريا باسم "آية "بوجهها البريء الذي بدا كساحة حرب قتلاها بلون الوجع القاتم، تلتفت يمنة ويسرة لعلها تجد والدها الذي افترقت عنه بعد الضربة على منزلهم في بلدة تلبيسة، في حين كان المسعفون يحاولون تهدئتها ومعالجة جروحها. تطالعني في العراق باسم "عبير الجنابي" بأطراف تقطر وجع، وجسد قد تفحم، تقص علي كيف اغتصبها جنود الاحتلال الأمريكي كما اغتصبوا أرضها من قبل ثم أحرقوها كما أحرقوا بلادها من قبل وطمسوا معالم مجدها وتراثها الشامخ . 

الحقيقة التي لا مراء فيها أن للعرب ذاكرة ولكنها كذاكرة الماء! لا تحمل النقش ولا تحفظ الصورة، ذاكرة تعكس الواقع على سطحها لا بأعماقها، يغمس أحدهم إصبعه بها ثم يطلع باللاشيء، وهذا لأن ذاكرة الماء لحظية مؤقتة تسقط الأشياء سهوا

تطالعني هي في فلسطين باسم "نداء الجعابيص" التي ماتت إثر دهسها من قبل مستوطن "إسرائيلي" في بلدة جبل المكبر، جنوب شرق القدس المحتلة. تطالعني هي في اليمن باسم "هديل باقاسم" بابتسامة أرى فيها صنعاء، تغزل من ضفائرها صباح يوم جعلوه من بعد قوة أنكاثا. على حافة الذاكرة وقفت تتأمل الهدم، تعد هزائمها، بينما هو يثرثر بالحرية كانت هي تزحف على الجمر، تواري سوءة ابتسامتها النافقة.

تطالعني هي في مصر باسم "سلمى" بجسد صغير، أشبه بغصن يابس ملقى بإهمال على رصيف الحياة، تبيع المناديل، هكذا كانت تهتف بصوت عذبه الجوع، يصفعها خيالها بصورتها القديمة عندما كانت تدرس بالصف الأول الابتدائي، بدأ مطر كسول بالتساقط، أغرى عيونها الصغيرة بالبكاء، تائهة أنت يا صغيرتي في فضاء مدينة تخرج من كتاب مدرسي، مريلة بنية اللون، صوت ناظر المدرسة الأجش، تحية العلم، وكسرة خبز مفتتة بقعر حقيبة مدرسية سوداء اللون.

قلمي المرتعش، يتوقف قليلا، يلتقط أنفاس خيبته ويسألني عن العرب وذاكرتهم المعطلة، ومشاعرهم الواهنة المؤقتة؟ يسألني قلمي فأنسحب إلى قهوتي، أدس خيبتي فيها وأتجرعها على وهن . العرب يا قلمي بعضهم بذاكرة مستأجرة يضيعونها بالحروب ويستردونها في المسارح والبعض الآخر بلا ذاكرة، يقتاتون الحياة على موائد الجنباء ثم يقنعون أنفسهم أنهم أحياء ولكن في الحقيقة هم موتى يمثلون الحياة باحترافية، تحرض ساكني القبور على التصفيق بحرارة!

والحقيقة التي لا مراء فيها أن للعرب ذاكرة ولكنها كذاكرة الماء! لا تحمل النقش ولا تحفظ الصورة، ذاكرة تعكس الواقع على سطحها لا بأعماقها، يغمس أحدهم إصبعه بها ثم يطلع باللاشيء، وهذا لأن ذاكرة الماء لحظية مؤقتة تسقط الأشياء سهوا، ترى قبح الواقع بعينين غائبتين كالعرب تماما! إنهم يحتفلون بيوم المرأة، وأنا على حافة المنفى في المخيم ألعق الذاكرة و اتساءل: ترى، بأيهن نحتفل أولاً، هي أم أمها؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.