شعار قسم مدونات

أُمّي.. يا موطِنَ الأمنِيات

blogs - الأم

شيءٌ أجهلُه يدفعني للكتابة، لكنّني أحبُّه. أحبُّه كثيرًا، خصوصًا هنا:
بينَ كلِّ تلك الوجوهِ المُمتلئةِ بملامحَ هشّة، تنكسرُ فورَ تحديقكَ فيها، وتلك العيون اللاهثة، والقلوبِ التوّاقة إلى استرضاءٍ بسيط، ليومٍ واحد، أو ربما ساعات، كنت أقفُ مشدوهًا، يعتريني شعورٌ بالنقص مرةً، وأخرى بالأمل.

لم أكُن أبدًا، في صغري، من أولئك الذين يعرفون قيمةَ ما يملكون، ويكونون أعداءَ ما يجهلون، كما هي الحال. شيءٌ ما يدفعني للاعتراف بذلك، ربما شعورٌ بالذنب، أو اعتذارٌ لا يرتقي فوقَ أسوار الكلام. لطالما وقفتُ غيرَ آبهٍ بما تقدّمينه أمّي، وما تسعينَ لصُنعنا عليه، لم أكُن من أولئك الأبناء الذين يشبهون أهليهم، ويمتلئون شعورًا بالانتماء إليهم، أو يصطفُّون بجانبهم ليكونوا كما يريدون، نسخًا، لا تفتأُ تعملُ على ما كانوا يعملون، وتسيرُ بعدهم على نهجٍ واحد، كما يريد الجميع. حتّى أن حنقًا كبيرًا يتملَّكُني كلّما رأيتُ أحدًا بمقدوره شكر والدته، أو أنّه يكنُّ حبًّا بقدْر ما يُظهر، وأتساءل: كيف يفعلون ذلك؟ كنتُ حقًّا أريدُ الوصول إلى تلك الدرجة، حائرًا، ألأنني لا أملك ذلك الحب، أم لأنه مكتنَزٌ لا يظهر؟ أتذكرين أمي تلك العُلب الملوّنة؟ والأغلفة المزركشة، التي تختلجُ بألوان عدَّة، يصعُبُ على العين تفريقها، وتلك القوالب البلاستيكية، والرسائلَ التي كنتُ أتدرّبُ فيها على تحسين خطّي، وتجربة مُفردةٍ جديدة تعلَّمتُها مُؤخرًا؟ أنا أذكر كلَّ ذلك، كما تفعلين.

ربما كنتُ أرسل تلك المحاولات الفاشلة كهدايا، لأنني وقتها لا أعرف قيمة المادّة، أو لأنني لم أزَلْ وقتها طاهرًا من كلِّ ما كسبتُه من هذه الحياة، منكفِئًا على عائلتنا البسيطة، ودروسيَ التي أعمل على إنهائها قبل العصر، وسعادتي بطعامٍ خارج المنزل في أيام الجُمعة، ويومي القصير، الذي ينتهي بزجرٍ عن البقاء بعد صلاة العشاء. كم كنتُ آملُ استكشافَ ذلك الوقتِ الذي كان يحدّثني عنه أخي، وما يحملُه من قصصٍ كثيرة، ويزيد من ارتباكي وقلقي، وما زلتُ لا أحبُّ الليل أمّي، كما عوَّدتِني.

يعاتبُني شعورٌ بالخجل على ما أفعل، كيف يصنع المرءُ رسالةً إلى والدته، الآن عرفت سببَ استهجاني إخبارَ أحدهم بحبِّه لأمه، لأن هذا الحب، ليس من حقِّه أن يُعلم، هكذا، لأنه ثمينٌ يُخبَّأ، يُحفرُ له في أقصى القلب

شكرًا، شكرًا أمّي على إبقائي طاهرَ القلب كلَّ ذلك الوقت، شكرًا لأنني ما كنتُ لأكون أنا لو لمْ تكوني أمّي، شكرًا على كلِّ تلك التفاصيل الصغيرة، التي لا يلحظُها أحد، غيري، شكرًا لأنك سمحتِ لي -دائمًا- بتصفيف شعركِ، شكرًا على كلِّ صبرٍ علينا في الصباح، شكرًا لأنكِ كنتِ تنهرينَنِي كلَّما رفضتُ ارتداء معطفيَ الصوفيِّ الأصفر، محتجًّا بأنَّ الجوَّ حارٌّ، شكرًا لأنكِ كنتِ تُنيمينَنِي بجانبكِ كلَّما حضرتني أضغاثُ أحلاميَ الكثيرة وقتها، شكرًا لأنكِ كنتِ تتواطَئين معي كلَّما سألني والدي عن إذا ما أكلتُ فطوري أم لا. لطالما تساءلتُ عن كلِّ ما تمنعينَني عن فعله، وذلك الذي تغضبينَ لأجله، وحتّى ما يسرقُ ابتسامتكِ كلَّما فعلناه، لأنَّني لم أكُن أعلم، ولن أعلمَ أبدًا، قيمة كلِّ ذلك الحب.

أعتذرُ هنا عن كلِّ انحناءة جفنٍ تركتْ دمعةً ساقطة، أعتذر عن كلِّ ليلةٍ منعتُك من نومها لأنَّك بجانبي، تحاولين ترغيبي بالدواء، أعتذر عن كلِّ محاولةٍ لطلب مستحَثّ، عن كلِّ أف، عن كل صمتٍ وأنتِ تطلبين الكلام، عن كلِّ قولٍ وأنتِ تأمرين بالسكوت، أعتذر عن كل ثانية قلق، سبَّبتُها لأنّني أهملتُ شحنَ هاتفي، وخرجت بهاتفٍ منطفئ، ودعواتٍ بعد ذلك تطاولُ السماء لحفظي، أعتذر، ولن أكفَّ عن ذلك، لأنَّ أخطاءنا لا تنتهي، لأنَّ أفعالنا لا تتصوَّبُ أبدًا دونَ نُصحِكِ.

كما أنني أودُّ التعبير عن امتناني لكلِّ شعرةٍ اعترى منبتَها شيءٌ من الشَّيْب، وكلِّ احدِوْدابٍ في ظهركِ، وكلِّ خدشٍ في يديكِ، وكلِّ تعبيرٍ خطَّه الزمنُ على وجهكِ، ربما دون علمه، أنكِ كنتِ وما تزالينَ دائمًا في عينيَّ أكثر من كلِّ ما يختزنُه هذا العالم من جمال، وأنكِ سيّدتي، كلَّ وقت، وكلَّما ضاقت بي حلقاتُ هذه الدنيا. وشكرًا لأنكِ علّمتِني فنَّ الحياة، الذي لا يُعلِّمُه أحد سوى الأمّهات، الذي هو الحبُّ. شكرًا لأنك أمّي. 

يعاتبُني شعورٌ بالخجل على ما أفعل، كيف يصنع المرءُ رسالةً إلى والدته، الآن عرفت سببَ استهجاني إخبارَ أحدهم بحبِّه لأمه، لأن هذا الحب، ليس من حقِّه أن يُعلم، هكذا، لأنه ثمينٌ يُخبَّأ، يُحفرُ له في أقصى القلب، ثمَّ يُترك هناك، ويتعاظَم. لأنه حبٌّ خالص، غيرَ مشوبٍ بنواقصَ تعتريه، سالمًا من العيوب، ومصوَّبًا نحو هدفٍ جليٍّ واضح. لأنَّه يعلمُ أنَّه لا يحتاجُ الظهور، موقِنًا أنَّ في الطرف الآخر ما يفوقه من الحب، لأنَّ الأمهات -دائمًا- يُحبِبْنَ أبناءهُنَّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.