شعار قسم مدونات

التطوع الخاسر..

blogs - أطفال فقراء
نعمْ، أنتظر منك نظرة الاستهجانِ هذه! إنّ التطوّع ما إن يُذكر حتى تلمح ذلك الجبين المتعرق وتلك الأيدي التي تضرب في أعماق العطاء لتقدم صناديقَ ملؤها الابتسامة والحب، إن تلكَ الصورة الذهنية إنما هي نتيجة أعمال شاقة قام بها الأجداد حتى بلغت الأحفاد، وتطوّع لنقشها على عقولنا أناسٌ ضحّوا بالغالي والغالي لنقول: "مرّ وهذا الأثر".
فلسفة العطاء لمدركها هيَ: فلسفةٌ تجعلُ مرّ الأمور أحلى مما لا يمكن تصويره إلا بتنهيدة من أعماقٍ منتشٍ، فلسفة تعتنق الصفاء الداخليّ الذي يتوحّد مع كلّ أركان الطبيعة ليصبح مؤثرًا من تلك المؤثرات التي نراها كلّ يوم تعطي ولا تسأل : الماء، الهواء، الشمس، والحب… وهلمّ جرًا

إن المتطوّع هو أداة الله الرحيمة من البشر لمخلوقاته، إن المعطي تطوعًا هو شخص قدّيس، إنه لا يتعامل مع البشرِ بشريًا، بل يتعاملُ مع الله عبدًا، يتعامل مع الذي لا تزيد عنده المناصب لأحد شيئًا ولا تخفض من أحدٍ شيئًا.

إنّ العملَ الخيريّ تدور بين جوانحه وعليه دوائر السّوء بولوج التطوّع فيه ممن ليسوا من أهله بغية اكتساب الاسم والشهرة، وبعضهم بُغية اكتسابِ المال، وليس هذا بمعيب!

إنّ التطوّع ليس – كما يظنّ بعض الدخلاء عليه – فسحة في وقت الأداء، ولا إهمالًا في كيفية الأداء، ولا تسويفًا في منجز الأداء، إن التطوّع التزام جازمٌ يجعل الإنسان يخرجُ من حيّز التكليف بمقابل، فيؤدي ما شاء متى شاء، ويخذ عليه ما يناسب من الجزاء، ليدخلُ في حيّز التكليف اللازم الذي لا ينتظر معه الوقت لمحةً ليكونه، وليس المتطوّع مخيّرًا، أو ذا فسحةٍ، أو مرفوع عنه القلم، ولا يغرّنك من يستشهدُ بما لا يصحّ الاستشهاد به في هذا الموطن من كتاب الله بقول الله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل).

نعم، ما على المحسنين من سبيل – ابتداءً – بالتكليف، فإذا ما تكلّف الإنسان أمرًا فإننا نحيله إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عملَ أحدكم عملًا أن يتقنه)، ولا أقول: إن المتطوّعَ معصوم، أو إنه لا يجب أن يخطئ، بل إن خطأه يصبحُ يومًا درسًا لمتطوّع آخرَ يفهم معنى السير على الخطى.. وزيادة، وليعلمِ الخاسرُ أن البعرة – أكرمك الله – تدل على البعير.

تلكمْ هيَ فلسفة العطاء الأخّاذة، حينما يترقّى الإنسان إلى ما فوقَ مرتبة الإنسان، ليتحوّل إلى معطٍ دون أن يكون آخذًا إلا رضا الله ثم الناس عنه، وينفلتَ بفعلِ ما تطوّع أن يفعلهُ دون أن يقصر فيه أو يرتقَه بتقصيره.

أخيرًا:
إنّ العملَ الخيريّ تدور بين جوانحه وعليه دوائر السّوء بولوج التطوّع فيه ممن ليسوا من أهله بغية اكتساب الاسم والشهرة، وبعضهم بُغية اكتسابِ المال، وليس هذا بمعيب إن كانت هذه الأهداف توازي أهدافًا سامية تحقق بالتطوّع مرادها، وتفثأ فيه روح التحقق والإنجاز، ولكن المعيب أن "يدمّر" المتطوّع الخاسرُ محور التطوّع إهمالا وتسويفًا، دون أن يدركوا أن تلكَ المهمّة لا يعطيها الله إلا للمصطفين من عباده ابتداءً بالأنبياء، ولذلك فإن الأنبياء هم سادة المتطوعين، فهم لا يسألون أجرًا إن أجرهم إلا على الله، وهذا هو التطوّع بعينه، ولكنهم يتلبسون هذا التطوّع شعارًا ودثارًا لا يخلعهم عنهم حتى الموت.

انظر هناك.. فربما أبصرتَ نورًا من بعيدْ.. نورًا يشعُّ مناديًا قلبَ المحبّ، ونبضهُ رغم القيودْ، انظر هناك.. ففيك شيء.. بل كثيرٌ، سوفَ تشرقُ بالمزيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.