شعار قسم مدونات

القراءة ورطة فاختر ورطتك

blogs - القراءة

القراءة هي أجمل ورطة قد يقع فيها الإنسان، ولا أظن أن هناك كلمتان تصفان القراءة أفضل من هاتين الكلمتين: أجمل ورطة. أما أنها ورطة فهذا ما يشعر به كل مثقف يحترم نفسه. لأن القراءة لا بد أنها قد ربت فيه الشعور بالمسئولية، إلى جانب الشعور بالحرية. والحرية نفسها مسئولية كبرى. الشعور بالمسئولية تجاه كل شيء تقريباً. تجاه الحقيقة، تجاه الإنسان، تجاه العالم، تجاه النفس. والشعور بالمسئولية يعني اتخاذ موقف من قيم الباطل والشر والقبح. أو بلغة باولو كويلو أن تصبح فارساً من فرسان النور في مواجهة هذه القيم. 

المثقف المسئول إذاً هو مشروع محارب لا يهدأ حتى ينكسر سيفه ويسقط. وهذا ما قصده النبي سليمان حين قال ما معناه إن المعرفة تنجب الألم. والمعرفة بهذا المعنى ليست سوى ورطة، لكنها ورطة جميلة، بل هي الأجمل على الإطلاق. فليس هناك متعة في الدنيا ألذ من متعة المعرفة كما يقول المجربون. ومع أن اتساع دائرة المعرفة تكشف لصاحبها حجم جهله أكثر مما تكشف حجم معرفته، فيزيده ذلك حسرة فوق حسرته وألما على ألمه، إلا أنها حسرة مقبولة وألم نبيل.

والأمر الذي يحاول الكاتب أن ينبه إليه في كل فرصة تتاح له هو أن مجال القراءة مثل مجال السياحة، كلاهما يحتاج إلى دليل. ليس لأن القارئ قد يتوه في أدغالها – فالتيه في القراءة مفيد – وإنما لأن الدليل قد يوفر عليك الوقت، فتحصل على أكبر فائدة في أقل وقت ممكن. والدليل الجيد هو الذي يضع بين يديك خارطة طريق واضحة تستغني بها عنه أحياناً. ولأن كاتب هذه السطور محسوب على المثقفين، وله تجربة في القراءة يحسبها ممتازة، فقد سولت له نفسه طوال سنوات أن يقدم النصح في هذا الباب لكل من استنصحه. وكانت أبرز نصائحه التي لا يمل من تكرارها هي: عليكم بالأدب، ثم الأدب، ثم الأدب.
 

إن أهمية القراءة في مجال الأدب دون غيره من المجالات تكمن فيما يستطيع أن يقدمه للشخصية الإنسانية من خدمات لا يقدر عليها غيره. فالأدب – ومعه الفن – هو مصدر نمو الشخصية، تماما مثلما أن الماء هو مصدر نمو الشجرة

لا يكاد الكاتب يتصور مجالاً آخر يستحق القراءة غير الأدب، وإذا اضطر القارئ للذهاب إلى مجالات أخرى فمن باب النافلة لا الفريضة، باستثناء أصحاب الاختصاص المعين خارج دائرة الأدب. وكلمة الأدب تتسع دلالتها عند الكاتب لتشمل النصوص الدينية وبعض نصوص التاريخ أيضاً. فالقرآن والعهدين القديم والجديد، وموسوعة قصة الحضارة لوول ديورانت، مثلاً. هي مدونات أدبية أيضاً. بل إن كتاباً كالقرآن يعد كتاباً جامعاً لظواهر أدبية وجمالية مختلفة. فهو في معظمه كتاب قصص كما هو ظاهر، ولغته تعتمد على التصوير الفني كما قال سيد قطب، وجرسه الموسيقي يوظف الإيحاء بصورة مؤثرة كما قال د. شكري عياد (1).

إن أهمية القراءة في مجال الأدب دون غيره من المجالات تكمن فيما يستطيع أن يقدمه للشخصية الإنسانية من خدمات لا يقدر عليها غيره. فالأدب – ومعه الفن – هو مصدر نمو الشخصية، تماما مثلما أن الماء هو مصدر نمو الشجرة. والشخصية التي لا تعرف الأدب – والفن – هي بالضرورة شخصية مسطحة، أفقيه، كالحلزونة لا تستطيع أن ترى في الحياة إلا بعدها الأفقي المسطح. وهذا النموذج من الشخصية هو أحد عوائق النهوض الاجتماعي -في المجتمعات العربية خصوصاً- لأنه لا يستطيع أن يتفهم المشاريع النظرية للنهضة، التي عادة ما تتصف بالعمق والتركيب، ومن ثم يتحول إلى حجر غشيم في يد خصوم النهضة والتحول، من المستبدين والمشعوذين تجار الخرافة.

إن القراءة في مجال الأدب -كما أقول دائماً- تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: فهي أولاً تضيف إلى تجربة القارئ في الحياة تجارب أخرى، تجعله أكثر خبرة بها وبأسرارها، وأعرف بنماذجها الإنسانية، ومن ثم أقدر على العيش فيها. وهي ثانياً توسع من مخيلته بما يجعله أقدر على تصور الأبعاد الحقيقية والخفية للوجود الذي يسبح فيه. وهي ثالثاً تثري قاموسه اللغوي بما يعنيه ذلك من تطوير لملكاته العقلية، إذا ما عرفنا أن اللغة تعد شرطاً في التفكير النوعي (الفلسفي)، وأنه كلما زاد رصيدك من اللغة زادت قدرتك على إجراء العمليات الفكرية الدقيقة. وهي رابعاً تمنحك من المتعة في مرافقة الأخرين – كتاباً وابطالاً – ما لا يمنحه لك أي مجال آخر من مجالات المعرفة. باختصار القراءة في الأدب تصنع شخصية أكثر ثراءً وعمقاً وحكمة وتأثيراً، وهذا ما ينبغي أن يسعى إليه المرء قبل البحث عن المعلومة الباردة التي قد يحتاجها في جدله مع الحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
1- يوم الدين والحساب، دراسات قرآنية أدبية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.