شعار قسم مدونات

ميلاد طفل وأم

مدونات، الأم

أصبحت أما وعشت مشاعر جديدة لم أكن أعرف عنها شيئا من قبل، قبل ذلك لم أكن أعرف عن رعاية الأطفال شيئا يذكر، لدرجة أن أمي كانت تقول لي أثناء حملي أنها ستستقبلني في بيتهم ستة أشهر على الأقل، لتتأكد أن الطفل سيكون بخير، لأنها وحسب كلامها كنت لا أعرف كيف أحمل طفلا حتى..

 

 في الأيام الأولى بعد الولادة

القيصرية وما يتبعها من آلام وضعف في القوى وصعوبة في الحركة مع ألم شديد في ظهري والحمد لله على نعمة المسكنات التي كانت تخفف نوعا ما، كانت أمي هي من تعتني بابنتي في كل صغيرة وكبيرة، دوري اقتصر على إرضاعها وتمشيط شعرها بعد استحمامها فقط، والمضحك المبكي كان عند الزيارة الأولى لطبيبة الأطفال بعد الأسبوع الأول، حين طلبت مني الطبيبة أن أنزع ملابسها لتفحصها، انتهت الطبيبة من الفحص وتركتني لألبسها ثيابها، ووقفت أنا وزوجي ننظر في بَعضُنَا البعض، فلا أنا ولا هو نعرف كيف نلبسها ثيابها، لم أكن أعرف أنها عملية معقدة لهذا الحد، حمدت الله على جرأتي التي أنقذتني في تلك اللحظة ونظرت مبتسمة للطبيبة قائلة هل لك بمساعدتي؟ ابتسمت الطبيبة متفهمة وبعد انتهائها من تجهيزها نصحتني بما أنني أسكن في دولة أخرى، وأمي لن تكون معي أن أبدأ بعمل كل شيء يتعلق بطفلتي..

 

أذكر أنني بعد ثلاثة أيام من تلك الحادثة بدأت أتعافى، وبدأت بتقوية نفسي أكثر، لا أنكر مشاعري في البداية عندما سيطرت على فكرة أن هناك من سيربطني ويقيدني، أفكاري كانت مضحكة فكنت أعتقد أنني بعد أن أنجبت لن أستطيع الخروج من المنزل مرة أخرى، وأن حريتي ذهبت أدراج الرياح، شعرت أنني كنت أملك جناحين لأطير وافتقدتهما في رمشه عين، لكن مشاعر الحنان التي سيطرت علي تجاه ابنتي والدعم النفسي الذي أحطت به خففوا من حدة تلك الأفكار..

 

حركات الطفل في حضن أمه في شهره الأول تشبه حركاته وهو في بطنها، وضعية جسمه، وأصواته الناعمة، ونظراته المتوسلة تذيب القلب حنانا

بدأت برعاية ابنتي لوحدي بعد أن راقبت أمي وقرأت مقالات وشاهدت فيديوهات متنوعة، وبصراحة لم أكن أتوقع أن الاعتناء بطفلتي بداية من الاستحمام لاختيار ملابسها وتلبيسها ثيابها هو شيء ممتع بحق، أذكر عندما قلمت أظافرها لأول مرة شعرت بالفخر لعدة أيام، ومنذ ذلك اليوم الذي بدأت به برعايتها توقفت عن طلب المساعدة، وأصبحت أفضل أن لا يعتني بها أحد غيري، حتى لو كانت هناك ألف يد تساعد، كنت أحمل ابنتي لتنام بحضني بعد الرضاعة ساعات طوال تتجاوز الخمس ساعات أحيانا، وكل من حولي ينصحني أن أتركها بعد أن أرضعها، لكي لا أجعلها تتعود على الحمل، شكل من قالوا لي هذا أمهات أحبهن وأحترمهن جدا، لكن فطرتي كانت أقوى مني لتجعلني أهز رأسي موافقة لكن قلبي كان يقول شيئا آخر ..

 

ليال سهر طويلة، ونوم متقطع، وسلام داخلي في تلك اللحظات، أعطوني فرصة للخلو بنفسي، والتفكير بأشياء لم تخطر ببالي من قبل، فحمل طفلتي وإرضاعها ونومها في حضني لمدة ساعات طويلة، جعلني أربط فكرة ولادة الطفل بعد أن كان في رحم أمه، بوضع الإنسان بعد الموت، فحركات الطفل في حضن أمه في شهره الأول تشبه حركاته وهو في بطنها، وضعية جسمه، وأصواته الناعمة، ونظراته المتوسلة تذيب القلب حنانا، فبعد أن كان مطمئنا في بطن أمه يحيطه الهدوء والسكينة، خرج إلى عالم موحش بالنسبة له، ووجد هذا الحضن الدافئ ليلتصق به، حضن الأم الذي فارق جسدها لكن ليس روحها..

 

 كل تلك الأفكار جعلتني أتخيل نفسي بعد الموت، تخيلت الحياة كرحم الأم تماما، وأنني بعد أن كنت أعيش سنوات في مكان مألوف، أؤمن بالله وأحضر نفسي لملاقاته، وأفعل كل شيء جيد ليرضى عني، وحولي مئة حضن يحتضنني، وطعام لذيذ أكله، ونظام حياة أعيشه، قد ذهبت لملاقاته الأن، وأصبحت وحيدة وخائفة، تخيلت أنني كالطفل أبكي وأنظر نظرات وأتوسل ربنا احتضاني، وأن يضعني في مكان جميل مع من أحب، وألا يتركني لوحدي، تخيلت ماذا لو لم يستجب الله لي، كيف سيكون شعوري؟

 

سعيدة أنا، لأني لم التزم بالقواعد السائدة من غير تفكير، تبعت قلبي وإحساسه، فالأمومة لا تنصاع لأي قاعدة، فهي في قلب كل أم تعرف ما الأفضل لها ولأطفالها، فوراء كل قاعدة سائدة قد يخسر المرء مشاعر لن تتكرر مرة أخرى.

بعد كل مرة كنت أقوم بإرضاع ابنتي وتنام في حضني لساعات، أتخيل هذا الموقف وأحضن ابنتي أكثر ،وأتأكد أنها بحاجة لهذا الاقتراب، كحاجتنا لرب السماء ورحمته بعد موتنا، بعد أن فارقت روحنا جسدنا، لكنها لم تفارق السماء، لم تفارق الله الذي بث فينا تلك الروح، والذي كنا دائما نتطلع لرؤيته، فبعد أن كانت تعيش طفلتي في بطني كانت تشعر أن هذا هو الأمان، وتطلع فرحة لملاقاتي لكنها خائفة من المجهول، وأنا كأم انتظرتها شهورا، أعرف أنها في حضني وحضن الحياة ستكون أكثر أمانا، لكن العالم هذا بالنسبة لها غريب وموحش وبارد، فكيف لي أن لا أعطيها حضني متى شاءت لأشعرها بهذا الحب والأمان؟

 

كنت أشعر أن من الظلم أن أتركها وهي عمرها أيام تنام على السرير لوحدها وتبكي، كنت أعرف أنها فعلا بحاجة لهذا الاحتضان، والحمد لله كنت قادرة على إعطائها إياه ومستمتعة أيضا، فحملها بين ذراعي خلصني من كل الضغوط النفسية التي من الممكن أن تتعرض لها أي أم جديدة، حملها كان جرعة من الإيجابية تملأ روحي وتنيرني أن الله بعد موتنا سيكون أحن علينا من أمهاتنا. كنت أراقب حركاتها وأشعر بمعجزة الحياة متجسدة أمامي، فحركات جسمها ويديها كانت تشعرني أنها ما زالت داخل بطني، فكنت أتفرج منبهرة بقدرة الخالق على هذه المعجزة، فيا الله ما أجمل تلك الحركات وهي بين ذراعي أحملها، ما أجملها وهي تحنن القلوب القاسية، تلك الحركات التي أذابت قلبي ألف مرة في اليوم، والتي جعلتني احتضنها أكثر وأكثر وأهمس في قلبها: أنني هنا، لن أتركها، وسأبقى بجانبها لا أتحرك من غيرها، لإعطائها كل ما تريد من حب وحنان.

 

سعيدة أنا، لأني لم التزم بالقواعد السائدة من غير تفكير، تبعت قلبي وإحساسه، فالأمومة لا تنصاع لأي قاعدة، فهي في قلب كل أم تعرف ما الأفضل لها ولأطفالها، فوراء كل قاعدة سائدة قد يخسر المرء مشاعر لن تتكرر مرة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.