شعار قسم مدونات

الكرامة: جنين العنف الذي صار فحلا

blogs- عملية الكرامة

حقيقة استهل بها مقال هذا الاسبوع هي أننا كمجتمع ليبي نعاني من أزمات متعددة ومركبة لها إفرازات سلوكية بغيضة، من أبرز مظاهرها العنف. فقد كشفت السنوات المنصرمة أن التفكير والسلوك المتشدد أصيلان في تعامل الناس وراسخان في وعيهم وقد وجدا متنفسا ليكشفا عن بشاعتهما خلال الأزمة الراهنة. أنطلقت عملية الكرامة تحت شعار محاربة الإرهاب، لكنها احتضنت بذرة الإرهاب في انطلاقتها ويكشف عن ذلك السلوك العنيف في إدارة العملية العسكرية، وما فتأت تلك البذرة أن تجذرت ومدت لها سوقا وأغصانا.

 

كنت قد حذرت مرارا من أن الكرامة، وفق المقاربة التي انطلقت بها، ستصل إلى نتائج وتداعيات أخطر من النتائج التي اقترنت بفبراير خاصة فيما يتعلق بسلوك حملة السلاح، والفارق يظل أن فبراير كانت هبة عفوية، فيما كانت الكرامة مشروعا سياسيا وعسكريا مخطط له أعوام قبل إطلاقه كما جاء على لسان عرابها.

 

المشاهد المتلبسة بعنف يفوق الوصف لم تكن فردية، ولم يتم احتوائها، ولم يتم استنكارها وملاحقة مرتكبيها، بل أصبحت سلوكا متكررا برره قادة عسكريون ومارسه البعض الآخر، أسماءهم اليوم أشهر من نار على علم، وحث عليه أعيان تصريحاتهم مهدت لما وقع اليومين الماضيين من عنف لا يُتصور، ووجد بعض النخبة المثقفة العذر لهذا السلوك العنيف. فبرغم الممارسات العنيفة لم ترتفع أصوات العقلاء لتقول نحن نتجه إلى سيناريو أفظع وأعنف من سيناريو ما قبل الكرامة وبنغازي معرضة لصراعات ممتدة.

 

لم تكن الفظائع التي تورط فيها دواعش سرت هينة أو محدودة لنعتبره الداعي لعدم وحشية البنيان المرصوص ضدهم، فمشاهد العنف ظاهرة ومتكررة وتشرح بجلاء مدى إرهاب هذا التنظيم

لا يمكن أن يكون السلوك العنيف والبشع الذي أخذ صور متعددة من تدمير وحرق الممتلكات الخاصة، أو القتل خارج القانون وإلقاء الجثث على قوارع الطرق وفي مكبات القمامة، والخطف والتعذيب في سجون سرية تحدث عنها قادة ميدانيين في الجيش وكشف عما يقع فيها حتى بعض المتحمسين لعملية الكرامة والذين واجهوا تعذيبا رهيبا في دهاليزها، ونبش القبور وحرق جثث القتلى وعرضها في مشهد لا تتحمله النفس البشرية السوية، وتصفية النساء، لا يمكن أن يكون كل ذلك مجرد ردود فعل على ممارسات وقع فيها الخصوم، فلم نسمع أو نرى شيئا شبيها بذلك أو حتى أقل منه في العنف من قبل كتائب عملية البينان المرصوص (تنظيم القاعدة كما يصفهم بعض قادة عملية الكرامة) التي واجهت الإرهاب الذي لا خلاف حوله، وهو تنظيم الدولة في سرت الذي يعرف عنفه ووحشيته القاصي والداني. فالمتهمون بأنهم قاعدة لم يتورطوا فيما تورط فيه منتسبون للجيش التابع للبرلمان من خروقات وانتهاكات فظيعة.

 

لم تكن الفظائع التي تورط فيها دواعش سرت هينة أو محدودة لنعتبره الداعي لعدم وحشية البنيان المرصوص ضدهم، فمشاهد العنف ظاهرة ومتكررة وتشرح بجلاء مدى إرهاب هذا التنظيم، لكن ردة الفعل كانت منضبطة، فلم نرى حرقا للجثث، ولا تمثيلا بالقتلى، أو استعراضا هستيريا لرفاتهم في الشوارع. الأخطر هو السكوت عن هذه الأعمال الوحشية، بل وتبريرها بحجة أن من وقع عليهم الفعل الوحشي قتلة وإرهابيون ويستحقون ما لاقوا من أفعال، وأنهم هم من سبق بهذه الأعمال الشنيعة.

 

وينسى هؤلاء أن هذه الأفعال تنطوي على عنف دفين يتمدد بمباركة النخبويين والرأي العام، وسيتحول المتلبسون به إلى الضرب في الداخل بعد انتهاء المعارك ضد مجلس شورى بنغازي. ينسى هؤلاء أن تبرير السلوك العنيف له أثاره الخطيرة على من يسمع ويرى، فإن لم يرهبهم الفعل ويصدمهم، فإن تكراره يدفعهم إلى التكيف معه، فيترسخ العنف ويثبت التشدد في وعي الناس وفي تعاملهم.

 

مسألة أخيرة تتعلق بجنين الإرهاب الذي صار اليوم فحلا وهو أن هذه المجموعات التي تلبس فعلها بالعنف والوحشية باقية باعتبار أن الانتصارات لم تكن لولاها وسيكون لها دوي وجعجعة في القابل

إن من أسباب استفحال العنف والإرهاب أنه لم يعد بالنسبة لقطاع من النخبة وجمهور واسع من أنصار الكرامة موقفا فكريا أو عقديا متشددا يصاحبه سلوك عنيف وحشي ينطبق على كل من يتلبس به دون استثناءات، فلسان مقال وحال الأغلبية هو أن الممارسات العنيفة والسلوك الوحشي هو إرهاب وفعل داعشي إذا كانت من الآخر ضدنا، وهي مقبولة ومبررة إذا كانت على أيدي من هم في جبهتنا ضد خصومنا. يقع كل ما سبق وسط تحريض ورضى أو سكوت الغالبية العظمى، ثم نتعجب من أين يأتي التطرف، ولما يتجه شبابنا إلى التشدد ويتحولون إلى "إرهابيين"؟!

 

مسألة أخيرة تتعلق بجنين الإرهاب الذي صار اليوم فحلا وهو أن هذه المجموعات التي تلبس فعلها بالعنف والوحشية باقية باعتبار أن الانتصارات لم تكن لولاها وسيكون لها دوي وجعجعة في القابل من الأيام مما يعني أنها:

– ستكون من أسباب الفوضى في المدينة ويتم التغاضي عنها

– أو أن يفتح ضدها جبهة مواجهة ليتكرر سيناريو الحرب البشعة

– أو يتم احتوائها وتوظيفها في سيناريو السيطرة وفرض الإرادة داخل معسكر الكرامة ذاته

وفي جميع الحالات النتيجة مخيفة، والمحصلة هي إن العقل والمنطق والتفكير السليم يقول أن وضع كهذا لا يمكن أن يكون عقباه خير، وأتمنى أن لا نردد حينها: "على نفسها جنت براقش".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.