شعار قسم مدونات

بنكيران.. "بطل" بلا أمجاد

blogs - بنكيران

كان يكفي صدور بيان مقتضب عن القصر الملكي في المغرب لإنهاء مشوار الرجل الذي ملأ دنيا السياسية وشغل أهلها في المغرب. إنه عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المغربية المنتهية ولايته، وزعيم حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، ثالث حزب إسلامي في العالم العربي يصل قيادة الحكومة عن طريق صناديق الاقتراع بعد تجربتي حزب "النهضة" التونسي، وحزب "العدالة والحرية" المصري. في تونس اختار إخوان راشد الغنوشي الانحناء للعاصفة والتراجع إلى الوراء عندما لمسوا حرارة مقود السلطة وجربوا إكراهاتها، وفي مصر أنهى انقلاب عسكري غادر دبر بليل أول تجربة لحكم مدني في مصر منذ عهد الفراعنة.
 

وفي المغرب كان يكفي بيان مقتضب صادر عن القصر الملكي لطي صفحة بنكيران، الظاهرة الصوتية التي شغلت الناس في المغرب طيلة خمس سنوات ماضية، لتبدأ تجربة جديدة مع نفس الحزب بأسلوب جديد وربما مغاير لأسلوب بنكيران، الذي خلق لنفسه من الأعداء والخصوم بقدر ما أكسبته تصريحاته ومواقفه من أنصار ومعجبين.
 

طريقة إزاحة بنكيران لم تخلوا من إهانة، ربما كانت مقصودة لكسر كبرياء الرجل الذي قال عنه مؤرخ مغربي، هو المعطي منجب، بأنه أصبح يجسد كبرياء الشعب، نفس الشعب الذي تأذت شرائح عريضة من قراراته وسياسات حكومته اللاشعبية

"انتهى الكلام" هكذا كان يقول بنكيران، عندما كان يريد أن يحسم في إحدى قراراته المثيرة للجدل، لكن الرجل الذي كان يعرف متى يقول هذه العبارة المأثورة لديه لمفاوضيه وخصومه، لم يتوقع أن يأتي اليوم الذي سيقال له فيه هو الآخر "انتهى الكلام"، لذلك قال بأنه شعر بالصدمة عندما أٌخبر بقرار إزاحته من رآسة الحكومة التي كلفه الملك محمد السادس بتشكيلها منذ زهاء خمسة أشهر ونيف.
 

طريقة إزاحة بنكيران لم تخلوا من إهانة، ربما كانت مقصودة  لكسر كبرياء الرجل الذي قال عنه مؤرخ مغربي، هو المعطي منجب، بأنه أصبح يجسد كبرياء الشعب، نفس الشعب الذي تأذت شرائح عريضة من قراراته وسياسات حكومته اللاشعبية. فالرجل الذي كان يقود الحكومة طيلة أيام الأسبوع من داخل مكتبه الموجود داخل "المشور" (القصر الملكي في الرباط)، بغير قليل من التسلط والتعنت، يتحول في نهاية الأسبوع إلى معارض شرس وداعية يحمل عصاه يلوح بها في وجه خصومه، يحشد عباراته اللاذعة الحمالة لكل الأوجه يلدغ بها خصومه ويدغدغ بها عواطف أتباعه ويجيش بها أنصاره ويؤلب بها عليه خصومه وأعداءه..
 

كان بنكيران يمارس السياسة بمنطق الفقيه الداعية، الذي يدعو أتباعه إلى الهداية، ويلتمس لخصومه المغفرة من الذنوب، ويتوخى من وراء كل ذلك الأجر لنفسه. لذلك زهد في مظاهر السلطة ومباهجها التي كان يعرف أنها زائلة، ولم يسعى إلى كنز المال والذهب كما يفعل الكثير من السياسيين الذين يعتبرون المناصب غنائم يخلطون بين السياسة والتجارة.  وسيبقى بنكيران، إلى جانب عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول الاشتراكي الذي قاد أو تجربة تناوب سياسي في المغرب وفي المنطقة العربية ما بين عامي 1998 و2002، أنظف رجلين سياسيين عرفهما المغرب خلال العقدين الماضيين.
 

في نظر الكثير من أتباعه سيبقى بنكيران "بطلا" قاوم ما كان يسميه "التحكم" وهي عبارة مخففة، دخلت إلى قاموس السياسة في المغرب، للتعبير عن "السلطوية" و"الاستبداد". وسيفتقد الكثيرون صراحته وشفافيته، فهو أول سياسي مغربي، بدون منازع، أدخل السياسة إلى كل البيوت، وجعل من حديث "الصالونات" السياسية نكثا يتسلى بها الناس،  وقفشات يتداولونها بينهم وهم يأكلون الخبز يسيرون في الأسواق. أما خصوم بنكيران فلن ينسوا همزاته ولمزاته اللاذعة التي عرت زيف خطابهم ونفاق أقولهم، وكشفت عن جشعهم وأنانيتهم وانتهازيتهم.
 

طيلة مشواره السياسي، أتيحت لبنكيران أكثر من فرصة للخروج من باب التاريخ الكبير، لكنه في كل مرة كان يختار الانحناء للعاصفة التي انتهت بأن ذرته مع رياحها. في سبعينات القرن الماضي دخل بنكيران السجن وتعرض لأشد أنواع العذاب، لكنه سرعان ما  ارتمى في أحضان جلاده، الذي سيكشف لاحقا أن بنكيران اختار التعاون معه بدلا من الصمود الذي أدى معتقلون آخرون، وأغلبهم من يسار السبعينات، ثمنه سنوات وعقودا من أجمل سنوات  شبابهم. لم يرث بنكيران من الشهور الخمسة التي قضاها في غياهب معتقل "درب مولاي الشريف" الرهيب في الدار البيضاء، لا شرف المناضل ولا مجد المٌعتقل الصنديد الذي صمد. دخل إلى ذلك المعتقل الرهيب، الذي كان يقال إن من دخله مفقود ومن خرج منه مولود، كما خرج منه، بلا مجد الأبطال وبلا شرف الصمود.
 

طيلة مشواره السياسي عرف بنكيران بحسه السياسي متى ينحني للعاصفة، يتوقع هبوبها، ويعرف متى يرفع رأسه لجني ثمارها، سلاحه هو لسانه اللاذع مع خصومه، الحاد عندما يحسم في قراراته

وفي تسعينات، القرن الماضي، سيبرز اسم بنكيران بين إخوانه كمنظر لدخول الإسلاميين إلى اللعبة السياسية التي كان يشكك في نزاهتها من كانوا يسعون إلى ممارستها بعيدا عن شروط السلطة، ويكفرها غير قليل منهم، لكنه مرة أخرى لم يدخلها كبطل لأنه اختار أن يعبر إليها عبر "وسائط" تزكيه، من خلال تقديم "تنازلات" تكسبه العطف والرضي والقبول.
 

وفي عز ثورات "الربيع العربي" سيختار بنكيران الوقوف في وجه المد الشعبي الذي كان يطالب بالحرية والكرامة، والاصطفاف وراء القوى التي ستحاربه عندما سيرأس الحكومة طيلة السنوات الخمس الماضية، وتنتهي بالنيل منه، ليخرج مرة أخرى من السلطة التي جاء إليها محمولا على أكتاف ثورات "الربيع العربي" الذي حاربه ووقف ضد مظاهراته، "مصدوما" يحمل في دواخله جرح الإهانة التي يكابر في إخفاءها عن أتباعه قبل خصومه حتى لا تتحول إلى موضوع للتشفي لدى الأعداء وسببا للإحباط لدى الأنصار.
 

طيلة مشواره السياسي عرف بنكيران بحسه السياسي متى ينحني للعاصفة، يتوقع هبوبها، ويعرف متى يرفع رأسه لجني ثمارها، سلاحه هو لسانه اللاذع مع خصومه، الحاد عندما يحسم في قراراته، لكنه سرعان ما يخونه عندما كان يجد نفسه أمام المواجهة التي كان يتفادها ويتجنبها. فهو مثل أبطال الروايات الشعبية المأثورة التي تبارز بالكلام المرصوص لشحن العواطف وتأليب الجيوش، وتتراجع إلى الخلف وتتوارى عند ارتفاع صليل الأسنة.
 

ربما حسب بنكيران طيلة مشواره السياسي كل مراحل تحوله من المعارضة إلى المهادنة إلى التعاون إلى الاحتواء إلى الإصلاح من الداخل إلى التماهي مع السلطة والسعي وراء رضاها.. عرف دائما كيف يختار توقيت قراراته، واختيار كلماته، وساعة الحسم في قراراته.. لكنه لم يحسب اللحظة التي سيعلن فيها عن خروجه ولم يٌترك له الوقت ليختار المخرج الذي سيسلكه..  فهو جاء إلى السلطة محمولا على رياح العاصفة التي انحنى لها وخرج منها تدروه رياح نفس السلطة التي قدم نفسه قربانا لحمايتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.