شعار قسم مدونات

عن المحافظة والحداثة ومخرجات المخاض المجتمعي

blogs - الناس

يلخص مفهوما "النفاق الاجتماعي" أو "الشيزوفرينيا المجتمعية" في نظر البعض مجموعة من الحالات والمواقف التي تبرز شكلا من التناقضات المجتمعية، والتي تعكس شرخا بين الأقوال والأفعال، والمبادئ والمواقف، والقيم والممارسات، لكن ماذا لو حاولنا أن نقارب المسألة من زاوية مختلفة؟

تعيش معظم الدول العربية، كما مثيلاتها في الدول الإسلامية ودول العالم الثالث، ما يمكن أن نسميه مخاضا مجتمعيا يرخي بظلاله على جميع مظاهر الحياة، ويرجع هذا المخاض أساسا إلى طبيعة العيش وسط مزيج من المتناقضات والتضاربات الصارخة في أنماط العيش داخل المجتمع الواحد، وسط تربية محافظة داخل الأسرة والمدرسة والانفتاح على ما يقترحه علينا التلفاز والإنترنت باعتبارهما وسائل تربية وتنشئة معاصرة، أي وسط خطابات التيارات المحافظة ونظيراتها الحداثية، وهذا ما يفسر بشكل طبيعي طفوّ مجموعة من السلوكيات الهجينة على السطح وظهور العديد من السلوكيات والممارسات غير المألوفة والغريبة والتي نصادفها على مدار اليوم.

يصبح حال الفرد هنا كحال الجالس على كرسيين، لا هو بمحافظ ولا هو بحداثي، وقلة هم من يستطيعون إمساك العصا من الوسط. كل ذلك لا يعني أن المسألة هي مسألة نفاق اجتماعي أو أن الأعراض هي أعراض "شيزوفرينيا" مجتمعية. نفس هذا التناقض هو ما عاشه ويعيشه كثير من أبناء جاليتنا العربية في المهجر، وهو ما خلف لدى كثير منهم صعوبات الاندماج في مجتمعات الغربة، هي الغربة ذاتها التي بات يعيشها الكثير منا في مجتمعه الأم.

يرى بورديو أن الإنسان الاجتماعي يتصرف وفق حتميات لاشعورية، أي دون أن يعرف لماذا يسلك على هذا النحو ويتصرف بتلك الطريقة.

القيم والممارسات والإحساس بالذنب
تعرف القيم على أنها مجموع الاختيارات الجماعية المتفق عليها، لكن ما ينبغي الوقوف عنده هو الفرق بين القيم والممارسات، فالقيم قطعا ليست هي الممارسات، صحيح أنها قد توجهها وتؤثر فيها، كما أنها قد تتعارض معها أيضا، ولا ينبغي تفسير أي تعارض على أنه نفاق اجتماعي أو أي تناف على أنه شيزوفرينيا مجتمعية، وإلا لما كان هناك وجود لآلية اسمها "تأنيب الضمير" أو "الإحساس بالذنب".

إن آلية "تأنيب الضمير" أو "الإحساس بالذنب" التي تشتغل تلقائيا عند البعض بعد صدور موقف أو ممارسة تنافي القيمة وتناقضها، تبرز أن هذا التناقض ليس بالضرورة نفاقا وليس حتما شيزوفرينيا، إنه ذلك المخاض المجتمعي، ذلك الصراع بين المحلي والأجنبي، بين الهويات الفرعية والهويات المهيمنة، بين ما قد نؤمن به وما قد تحركنا غريزتنا وشهواتنا ومكبوتاتنا نحوه. فالمسألة هي مسألة تأثير وتأثر، والظروف هي ظروف تربية وتنشئة، والمخرجات هي مخرجات التراكمات والضغوط والقيود المفروضة.

هابيتوس" بورديو 
يرى عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" أن "الهابيتوس" نسق من التكوينات الإدراكية المكتسبة عبر الزمن، تتدخل فيها التربية والتنشئة الاجتماعية. والهابيتوس وفقا لهذا التصور يشكل الطاقة الفعلية التي تقوم بتوجيه سلوكات الفرد أو الجماعة اعتمادا على مرجعية معينة تقع في البنية الذهنية، أي في العقلية التي تحكم نسق الممارسات والسلوكات عند الفرد والجماعة على حدّ سواء، وهو بوضعيته هذه يضفي المشروعية على وضعيات اجتماعية مختلفة.

يرى بورديو أن الإنسان الاجتماعي يتصرف وفق حتميات لاشعورية، أي دون أن يعرف لماذا يسلك على هذا النحو ويتصرف بتلك الطريقة. ويمكن تفسير السلوك في منحاه هذا على أنه ترجمة طبيعية وعفوية لنظام من المعطيات والعمليات السيكولوجية المتأصلة في عقل الإنسان وفي نظامه الذهني الداخلي، ولا تجد تفسيرا لها إلا في ذاتها وفي كينونتها الداخلية..

بين الحسم والمواءمة

إن الفرد في مثل هذه المجتمعات التي لم تحسم بعد إلى أي جانب تصطف، يُخلق لديه نوع من الاضطرابات على مستوى الممارسات والمواقف. والمقام هنا، مقام حسم أو مواءمة، فالحسم هو الاصطفاف في صف المحافظين أو الانضمام إلى فرقة الحداثيين، والمواءمة هي إيجاد تلك التوليفة الصحية بين المحافظة والحداثة.

الحسم قد ينهي جدل المخاض، لكن الخوف، كل الخوف، من الانجرار وراء التعصب، فالمحافظ قد يصبح محافظا حد التَزَمُّت والحداثي قد يصير متطرفا. لقد خلقنا لزمان غير الزمان، لا يمكن أن نعيش في جلباب حقب أخرى، كما لا يمكن أن ننسلخ عن هويتنا تمام الانسلاخ. 

تهدف التربية الإعلامية إلى تمكين الفرد من مهارات التعامل مع الإعلام استهلاكا وفهما وتحليلا ونقدا وإنتاجا، عن طريق تنمية مهارات التفكير النقدية التي تمكنه من تطوير رؤى مستقلة للحكم على مضمون الرسائل الإعلامية

العنف الرمزي يولد العنف المادي
في غمرة كل هذه المتداخلات، وفي ظل عدم قدرة البعض على التعامل مع هذه الاختلافات لم يعد المشكل الوحيد هو فهم المتناقضات وعقلنتها وكيفية تقبلها والتعايش معها، بل أصبح الهاجس هو مخرجات هذا المخاض المجتمعي. قد يولد العنف الفكري والثقافي والرمزي عنفا ماديا، يقول الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" إن الإرهاب هو رد فعل تجاه الحداثة، لأنها فرضت بشكل قسري خصوصا على بعض مجتمعات الجنوب، ويدعم هابرماس الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع هذا الطرح بقوله إن الإرهاب الذي نعيشه اليوم هو نتيجة اصطدام العصرنة والحداثة مع بعض المجتمعات، حيث صارت الثقافات المختلفة ننجه نحو الثقافة الواحدة المنمطة، ثقافة مركزية تذهب في اتجاه إقصاء ما دونها.

وما كان، والظرفية هذه، إلا لجيوب المقاومة أن تظهر، أن تسمع صوتها، وأن تحاول الحفاظ على هويتها وتعيد إنتاج وإحياء موروثها، محاولة صد ذلك السيل الثقافي الغربي الممتد. وقد تتخذ حركات المقاومة هذه، شكل حركات ثقافية أو تيارات فكرية أو موجات فنية، كما قد تتخذ شكل حركات متطرفة اختارت مواجهة العنف الرمزي بعنف مادي.

بات الإعلام على رأس قائمة المؤسسات المنتجة للعنف الرمزي، وأضحى أكثر من أي وقت مضى الموجه الأكبر للأفكار والقيم والمعتقدات، مستعينا بما يمتلكه من قدرة على تجديد نفسه وتحديث تقنياته وتحيين أساليبه، متوجها بذلك إلى كل الفئات العمرية ومستهدفا كل فرد من أفراد المجتمع بهدف الاستمالة والإقناع والدفع إلى تبني رؤى قد تكون معدة على المقاس. التربية الإعلامية جيب من جيوب المقاومة. لقد تم الانتقال من الدعوة إلى إصلاح الإعلام وتخليقه نظرا لاستحالة الأمر، إلى محاولة تأهيل الفرد وجعله قادرا على التعامل ومواجهة هذا الكم الهائل من المعلومات والرسائل الملغومة المنتشرة هنا وهناك عبر شتى وسائل الإعلام.

وتهدف التربية الإعلامية إلى تمكين الفرد من مهارات التعامل مع الإعلام استهلاكا وفهما وتحليلا ونقدا وإنتاجا، عن طريق تنمية مهارات التفكير النقدية التي تمكنه من تطوير رؤى مستقلة للحكم على مضمون الرسائل الإعلامية، وتجعله أكثر وعيا بتأثير وسائل الإعلام على الفرد والمجتمع، وأكثر قدرة على مناقشة المحتوى الإعلامي وتقييم الرسائل المختلفة، وذلك عبر مناهج تربوية واضحة. إذ تعتبر اليونسكو أن التربية الإعلامية جزء من الحقوق الأساسية لكل مواطن، في كل بلد من بلدان العالم، كي نتمكن من بناء جيل قادر على العيش في سلطة الصوت والصورة والكلمة. 

أصبح من اللازم على مؤسسات التنشئة الاجتماعية في البلدان العربية، كل من موقعها، وكل حسب اختصاصاتها، الانخراط في هذا المشروع، وتسخير المناهج العلمية والكفاءات البشرية اللازمة لإنجاحه وتحقيق أهدافه، كما أصبح من الضروري جدا تعليم التربية الإعلامية داخل المدارس التربوية، سواء من خلال إدماج مادة تحت مسمى التربية الإعلامية، أو عن طريق إغناء وتطوير المقررات الدراسية وتضمينها لمحاور ومجزوءات مخصصة للموضوع، أو من خلال مجموع الأنشطة الموزاية التي تهتم برفع الوعي الإعلامي لدى الطلاب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.