شعار قسم مدونات

ما دامت أمُك بخير

الأم
يقولون الكثير من الكَلَمِ ويُرددون الأشعار والأغاني الرقيقة التي تحمل في طياتها حب وامتنان كبير لها، لكن هُنا لا تتجمل الحروف بقدر ما يتجمل به القلب، هنا دون سبب، دون تحليل أو تفسير نظل بالحب لها لا نبالي بأي شيء آخر، هي لا تحتاج لعيد للأم، يكفي أن وجودها هو العيد ذاته. سلامٌ عليكي فأنت نعيم الله في أرضه.

هُنا تتحدثُ مسافاتي عنكِ أكثر من عناقِ أحرفي، فعندما تبدأ في الابتعاد عنها تشعر وكأن الدنيا تضيق بك مهما اتسعت. فيحدث أن تسافر بعيداً لأجل عمل أو دراسة جامعية، وكأنك تركت روحك وذهبت بجسدك فقط، وكأنك تركت بعضك هُنا وأخذت بعضك هُناك فتهجرتُ في نفسك وتاهت منك! تخشى من ابتعاد ملامحها عنك، وأن تبهت نبرات صوتُها عبر الشبكات فتسقط كلمةٌ هنا وضحكةٌ هُناك ولا يتبقى سوى التلهف إليها. تتجنب كل عبارات اليأس والوحشة وتتظاهر بالرضى والفرح خشياً عليها أكثر مما تخشى هنا في غربتك عليك.

يقول "مارك ميرو": " عندما رحلت، أدركتُ كم كانت تؤمن بي وبقدراتي، هي من ظلت معي حتى النهاية". تمنى لو تعود دقات الساعة إلى الوراء ليكُن لها ما كانت تريد.

تستمعُ إلى صوتها وفي قلبك الكثير والكثير من الكَلم والحب، تعدّ الأيام لعلها تنقص من كثرتِها شيء لتعود بشغفك تحكي لها عمّا كان وعمّا سيكون.. تطلب منها الدعاء وأنت موقِنٌ أن الحياة ستجوب لك بعطاياها. كيف غير ذلك وقد كان وما زال دعاء الأم هو توفيق طريقنا وخيط نجاتنا، بل هو الذي يُسور حزننا ويقبض عليه.
 

تُحدثك لتعطي تعليماتها الحنونة وعلى شفتيك شيءٌ من البسمة وهي تقول "لا تسهر كثيراً، اغلق الأبواب جيداً، صل كثيراً عندما تشعر بالحزن، لا تغلق الهاتف، لا تأكل من الخارج" تُذكرك بأشيائك التي طالما نسيتُها، لكنها لا تنسى مواعيد دوائك أو عشاءك الذي زعمت أنك تناولته. أنت تعلم كم كبرت، ليس على اعتنائك بنفسك، لكن تعلم أنك كبرت وقد كبُر معك خوفك عليها أكثر منها، تخشى لأن الغياب يُضيرك رغم تلك التعليمات التي تغبط منها أحياناً.

تستمعُ إلى عتابها لك عنما انغلق الهاتف لعدة ساعات، وظنّت أن أحدهم قد قام بخطفك، وصوتُ ضحكاتك يعلو وأنت تردد "أنا لم أعد صغيراً يا أمي، فأنا بخير"، أو يحدث أن تمضي وقتك المُمتع بين الأصدقاء لا تبالي بشيء سوى قضاء وقتً جيد لتبقى جليسةٌ تراقب دقات الساعة مع دقات قلبها التي ترتفع كلما تأخر قدومك. وأحياناً ترتفع درجة حرارتك ليصل ضَعفك إلى أقصاه وكأنك تتكئ على حافة المرض، وتبقى هي ساهرة لا تبالي سوى بتخفيف وجعك بأقصى جهدها. ليتكِ تُدركين كم كبرنا، أصبحنا نحنُ من نخاف ومن نكترث، ندعو آلاف المرات بل إلى مالا نهاية أن يبقى وجودك هو العصا التي نمشي بها.
 

كثيرٌ من الأشياء يمكن تعويضها، كأن تفقد صديق الطفولةِ ولم تعد الأيام تتوالى كما السابق، أو تبتعد عن شيء تُحبه ويعوضك الله غيره. لكن أسوأ الأشياء في الحياة وأصعبها أن تفقد ما تعلقت روحُك به وأنت تعلم أنه لم ولن يُعوض. كثيرٌ من الأشياء التي تُستبدل على عتبات الحياة، لكن تظل الأم هي أكثر الأشياء التي لا تتكرر أبداً. أيقنت أن غربة الدفء مكانها هُنا بعيداً عنكِ، بعد أن كان السفر تذكرة طيران نطمحُ لها ومطارا دوليا نسعى إليه. أيُ مطار نأخذه بعيداً عنكِ وأنت الملجأ!، أنتي الإلهام الذي لا يختفي.

تستمعُ إلى عتابها  عنما أغلقت هاتفك  لساعات، وظنّت أن أحدهم قد قام بخطفك، وصوتُ ضحكاتك يعلو وأنت تردد "أنا لم أعد صغيراً يا أمي، فأنا بخير".

يحكي (مارك ميرو) عن والدته، وكيف كانت إلهامه الوحيد عبر فيديو تحفيزي مؤثر تم تداوله مؤخراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في البداية يسرد كم كان يكره خوفها الشديد عليه وكأنه طفل. كانت دائماً تُشعره بالخجل أمام أصدقائه. لم يكن لها الابن المثالي كما كانت هي، سافر بعيداً عنها وعرف خبر رحيلها عبر شبكات الغربةِ والانعزال وكأنها شخصٌ غريبُ عنه. يقول: " عندما رحلت، أدركتُ كم كانت تؤمن بي وبقدراتي، هي من ظلت معي حتى النهاية". تمنى لو تعود دقات الساعة إلى الوراء ليكُن لها ما كانت تريد. ليبعثُ لنا رسالةً قصيرةً تحملُ الكثير عن الدور الذي ربما نتجاهله ولا نُدركه داخل قصة نجاحنا. الجانب الأكبر يعود إليها.

دامت أمي الأمل والضوء الذي يُنير طوال الطريق، لله دُر تميم حين قال:" تكتب في كار الأمومة من الكتب ألفين" فصدقاً، لا وحشةً في قبر رضوى. أنا أغبط سفري هذا وأغبط اشتياقي لكِ، ليس الغربة بالمكان بقدر ما تكون في الروح. أتجنب كل العثرات وأُكمل هُنا موقنة أن دعواتك تُسّير ما أرجوه.. فاليوم أنسى كل سيء ما دُمتي أنتي بخير. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.