شعار قسم مدونات

في ذكرى العاصفة

مدونات، اليمن

قبل اثني عشر يوماً من دخول المليشيا الحوثية إلى العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014، كانت إحدى المؤسسات الثقافية في العاصمة قد دعتني لإلقاء محاضرة حول أطروحتي التي عرفت باسم "العلمانية الثالثة". قلت في بدايتها إن الحديث عن نظرية في الفكر السياسي على أصوات طبول الحرب هو نوع من الترف. فقد كانت المعركة مشتعلة في محافظة عمران المحاذية للعاصمة حينها، وكانت المؤشرات تقول إن مؤامرة كبيرة تحاك ضد ربيعنا اليمني ووثيقة مؤتمر الحوار الوطني الشامل. ومع أن معظم اليمنيين آنذاك كانوا يستبعدون سقوط صنعاء بيد المليشيا الإمامية، وأنا أحد هؤلاء إلا أن صوتاً داخلياً كان يلح علي بين فترة وأخرى بالقول إن الجمهورية كلها ستسقط في أيديهم يوما ما قريب.

وقد كاشفت صديق لي بهذا الإحساس مع ترحيل أهالي "دماج" من منطقتهم، قبل معركة عمران، فضحك كأنما سمع نكتة. كان عامة اليمنيين يستبعدون هذا المصير، ويعتقدون أن الحوثية مجرد انتفاضة طارئة سرعان ما تتلاشى. ومن القصص الطريفة في هذا السياق أن صديقاً لي سأل قريبه المثقف الكبير في إحدى ديوانياتنا الأسبوعية: هل تتوقع أن تسقط صنعاء بيد الحوثيين؟. فكانت إجابته: درس التاريخ يقول إن الإمامة قد تصل إلى مشارف صنعاء لكنها لن تدخلها. وبعدها بأسابيع كان منزل صديقي هذا من أوائل البيوت التي اقتحمها الحوثيون، لأنه يقع على مدخل العاصمة. ويومها اتصل بقريبه المثقف يقول له ما معناه: أخبر التاريخ إن الإمامة في حوش منزلي!

لم أكن أعرف أن أصوات الصواريخ يمكنها أن تبعث في النفس الأمل بدلا من الخوف إلا في تلك الليلة. لم يسدل الستار إذن على أحلامنا، يبدو أن المقادير وحدها هي التي تعمل معنا في عالم المؤامرات الكبير

لقد كانت فكرة عودة الإمامة إلى السلطة لدى معظم اليمنيين تشبه فكرة استعادة الهنود الحمر لوطنهم القومي أمريكا. ففضلاً عن كون السلاليين والإماميين عامة أقلية محدودة بين اليمنيين، فقد كانت ستة عقود من الجمهورية كافية في نظرهم لإنهاء أي طموح من هذا النوع. خاصة وأن سمعة الإمامة في تاريخهم تشبه سمعة الطاعون الذي فتك بأوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي. ولعل الدرس الأول الذي تعلمه اليمنيون من سقوط صنعاء بيد الإماميين هو أن المستحيل كلمة مبالغ فيها. والدرس الثاني أن الأقلية التي تمتلك حلماً، وتخطط له تخطيطاً جيداً، لا بد أن تساعدها الظروف في تحقيق حلمها، حتى لو كان مشروعاً شيطانياً.

كان المشهد خليطا من الدراما والفنتازيا والكوميديا السوداء. مجاميع من أشباه الآدميين يقتحمون العاصمة على صهوات مركباتهم، بثياب غريبة متسخة، ووجوه كالحة، وعيون مخمورة بالنصر. إنه منظر يليق بأفلام الخيال في السينما الهندية تحديداً. هل هذه هي النهاية؟. هل سقط ربيعنا اليمني العظيم؟ هل سقطت جمهوريتنا أيضاً؟ هل سقطت أحلامنا تحت حوافر هؤلاء؟ لا، هذا ليس طبيعياً، وليس منطقياً، هناك شيء ما لا بد أن يحدث. هذا ما دار في خلدي حينها. لم يكن هناك شيء محدد يبعث على الأمل في تغير الوضع، سوى ذلك الصوت الداخلي المجهول الذي همس لي من قبل بعودتهم. ها هو اليوم يهمس لي بأن شيئاً ما لا بد أن يحدث. ما طبيعة هذا الشيء؟ لا أدري. لكني لا استبعد شيئاً بما في ذلك الكوارث الطبيعية!

في حوالي الساعة الثانية والنصف ليلا من صباح يوم الخميس السادس والعشرين من مارس 2014 – وهو يوم مطابق لتاريخ ثورة سبتمبر 1962 على النظام الإمامي، أيقظتني أصوات انفجارات قوية. وفوراً أيقظت زوجتي لأقول لها: قومي، الطائرات السعودية تضرب الآن. لم يكن أمامي غير هذا الاحتمال، بعد أن سمعت قبلها بيوم أو يومين حديثاً للدكتور أحمد التويجري على قناة الجزيرة يبدي فيها انزعاج السعودية من سقوط صنعاء بيد الحوثيين. وكتبت منشوراً يومها أقول فيه إن كلام التويجري له ما بعده.

لم أكن من محبي النظام السعودي في أي وقت من الأوقات، بل على العكس من ذلك، كنت أعتبره مسئولاً عن جزء من شقائنا نحن اليمنيين، سواء بسبب دعمه لنظام صالح، أو بسبب تبنيه لنشر الفكر الوهابي الذي كنت أراه مسئولاً عن تسطيح العقل المسلم الحديث. لكني كنت على استعداد في تلك الليلة لنسيان كل خطايا المملكة السعودية في حقنا إذا ساعدتنا على التخلص من هذه العصابة الغاشمة.

ولاحقاً صرت مستعداً لتفهم إيجابيات الفكر الوهابي مقارنة بالفكر الإمامي. ومن غرفتي المطلة على كامل مسرح العمليات في العاصمة، رأيت نيران الصواريخ الهابطة من السماء. لم أكن أعرف أن أصوات الصواريخ يمكنها أن تبعث في النفس الأمل بدلا من الخوف إلا في تلك الليلة. لم يسدل الستار إذن على أحلامنا. يبدو أن المقادير وحدها هي التي تعمل معنا في عالم المؤامرات الكبير، وهكذا أفهم معنى العبارة القرآنية: "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".

اليوم بعد أكثر من عامين من بدء عاصفة الحزم، تضاءلت كثير من الآمال المعقودة عليها، لكن قدراً من آمالنا ما زال باقياً. صرنا ندرك أنها حرب من أجل حماية وجود دول الخليج لا من أجل تحقيق أحلامنا. لكن لعل الأقدار تدرج قدراً من هذه الآمال في سياق الشروط الجديدة لحماية الخليج من أطماع إيران، وتآمر المتآمرين على دوله. إلا إذا السعودية ودول الخليج العربي أن تأخذ نصف جرعة علاج الملاريا فقط!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.