شعار قسم مدونات

هل يمكن أن يتكرر سيناريو اتفاقية نيفاشا في السودان؟

blogs - السودان

في الأسابيع الماضية روجت وسائل التواصل الاجتماعي ورسائل الواتساب أن هناك اتفاقية سلام ستوقع بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية في الأيام المقبلة سوف تكون على شاكلة اتفاقية نيفاشا 2005م ورغم خروج البيانات المكذبة لهذه الأخبار من الوفد الحكومي للمفاوضات ومن الحركة الشعبية إلا أن كثيرين لم يستبعدوا سيناريو أن تقوم الحكومة السودانية بتوقيع اتفاق آحادي مع النوبة تمنحهم فيه صلاحيات تشبه تلك التي أعطيت للجنوبيين في 2005م ويقول أنصار هذا الرأي أن فترة الستة أشهر التي منحتها الحكومة الأمريكية للسودان هي لدفع الحكومة السودانية نحو توقيع اتفاقية سلام شاملة والقيام بإصلاح سياسي ورغم مايبدو لهذا الرأي من وجاهة إلا أنني لست من أنصاره لأسباب عدة وأعتقد أن توقيع اتفاق نيفاشا من جديد غلطة  لن تقدم عليها الحكومة السودانية مرة أخرى مهما كانت الجزرة الأمريكية.

 

لقد أنتجت نيفاشا 2005م وضعا كارثيا في السودان حيث تم التفريط بالجنوب لعصابة الحركة الشعبية على أمل الحصول على السلام ولكن انفصل الجنوب ولم نحصل على السلام حتى الآن بل انفجرت شرارة الحرب ووصلت إلى مناطق العاصمة نفسها كما حدث في 2008م عندما هاجمت قوات خليل إبراهيم أم درمان أحد أضلاع المثلث الذي يشكل العاصمة واندلع قتال شديد ما بعد انفصال الجنوب في النيل الأزرق وجبال النوبة بنفس الحجج التي رفع بها السلاح في الجنوب في الخمسينات والثمانينات  ودولة الجنوب التي أصر العالم كله على ولادتها (بما فيه بعض الدول العربية) انتهت إلى دولة فاشلة تمزقها الحرب وتصدر اللاجئين بعد أن اختلف رفاق الأمس على السلطة.

 

القضية السودانية لم تعد تشغل العالم مثلما كانت قبل 20 عاما ً ولم تعد أولوية له خصوصا بعد انفجار بلاعة الإرهاب والذي أصبح يشكل عامل قلق للغرب أكثر من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وتراجعت أولويات كبرى تحت ستار هذا الخطر

هناك مشكلة عند بعض المحللين السياسيين السودانيين وهي أن أغلبهم يتعاطى التحليل السياسي بأسلوب أقرب إلى التمنيات منه إلى الواقع ولذلك فإنهم يقعون في أخطاء جسيمة في تحليلاتهم.

 

القضية السودانية لم تعد تشغل العالم مثلما كانت قبل 20 عاما ً ولم تعد أولوية له خصوصا بعد انفجار بلاعة الإرهاب والذي أصبح يشكل عامل قلق للغرب أكثر من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وتراجعت أولويات كبرى تحت ستار هذا الخطر فلم يعد الغرب مهتما بدعم الديمقراطية في المنطقة كلها وكما تابع الجميع فقد تحدثت خريطة المسارات الأمريكية لرفع العقوبات عن كل شئ في السودان إلا الديمقراطية وركزت بشكل مركز على قضية مكافحة الإرهاب.

 

الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تعد نفس تلك الحركة التي كان الغرب مجمع على تأييدها بسبب فشل وفساد النخبة التي حكمت باسمها دولة جنوب السودان والتي كانت نخبة غير مسؤولة وأشعلت مأساة إنسانية هي بمثابة رواندا ثانية رغم أنها فعلا حصلت على بلد يمتلك احتياطات ضخمة من النفط.

 

الحركة الشعبية فقدت حلفاؤها من اللوبيات الديمقراطية وجزء كبير من اللوبيات الإفريقية التي كانت تضغط لصالحها على صانع القرار الأمريكي وهذا الفقد الذي حدث للحركة الشعبية في الجنوب يمتد أثره إلى الحركة الشعبية في الشمال والتي أصبحت مكشوفة الظهر تماما ً اللهم إلا من بعض الدول العربية (الفاجرة في الخصومة مع الحكومة السودانية).

 

يضاف إلى كل هذا فالحركة الشعبية لا تمتلك سيطرة حقيقية على مساحات شاسعة في الأراضي السودانية اللهم إلا بعض الجيوب الجبلية الوعرة التي من الصعب إنهاء التمرد فيها أبدا بالأسلحة التقليدية حيث أنها جبال عاتية تشبه إلى حد كبير تورا بورا والتي استخدم الأمريكان في قصفها قنابل بمئات الأطنان في أثناء رحلتهم لتعقب القاعدة.

 

لو كانت الحركة الشعبية تملك مساحات سيطرة واسعة لكان المجتمع الدولي قد ضغط على الحكومة السودانية لعقد تسوية معها أو حتى لو كانت الحركة تملك بعض من القوة التي كانت عندها في 2012 و2013م عندما هاجمت أبو كرشولا وأيام ما كانت مسيطرة على الكرمك وعلى مساحات واسعة من النيل الأزرق.

 

ما أريده أن التسوية التي تعرضها الولايات المتحدة هي تسوية مهينة تتساوى فيها الحركة الشعبية مع من وقعوا اتفاقات أسمرا وأبوجا وجيبوتي والقاهرة وهي الترتيبات الأمنية أولا ثم
إعطاء بعض الوزارات لها في الحكومة ليتفرغ الجيش السوداني لمكافحة الإرهاب .

 

إن الأنباء التي تتحدث عن إقالة ياسر عرمان رئيس وفد التفاوض واستبداله بعبدالعزيز الحلو والتي خرجت للعلن مؤخرا تشير أن الحركة الشعبية لا تدرك أن القطار قد فاتها على تقديم مثل هكذا طلبات

يبدو أن ياسر عرمان قد أظهر ليونة في المواقف أمام الغربيين ووعدهم بدفع الحركة الشعبية للتوقيع على اتفاق مع الحكومة فهو قد أصبح مدركا تماما أن توزنات القوى في السودان مالت لصالح الحكومة الحالية خصوصا بعد المشاركة في عاصفة الحزم وتوجه الحكومة لأن يكون لها تفاهم استراتيجي مع السعودية مع الإمارات.

 

خلال الأسبوع الماضي خرج بيان استقالة للسيد عبدالعزيز الحلو يحتوي مضمونه أن هناك أزمة ثقة بين مقاتلي الحركة الشعبية على الأرض والجناح السياسي الذي يذهب للمفاوضات فالجناح المسلح للحركة الشعبية كما يبدو من البيانات لا يريد ولا يطمح أن يناقش كل القضايا السودانية بل يركز على قضايا جبال النوبة ويطلب بشكل صريح أن يذهب عرمان ليأتي لهم بتقرير المصير وفقط  هذا وفي حين أن عرمان يريد أن يطرح نفسه كشخصية قومية مستغلا الصلاحيات التي أعطيت له وفي أثناء خلاف عرمان مع الحلو تمد الحكومة لسانها ويمر الوقت والمهلة الدولية على الحركة الشعبية والتي فيما يبدو في طريقها لتخسر الحليف الأمريكي تماما مع توجهات إدارة ترمب المعلنة والتي تدعم الجيوش والأنظمة القائمة على أساس الحفاظ على الإستقرار .

 

إن الأنباء التي تتحدث عن إقالة ياسر عرمان رئيس وفد التفاوض واستبداله بعبدالعزيز الحلو والتي خرجت للعلن مؤخرا تشير أن الحركة الشعبية لا تدرك أن القطار قد فاتها على تقديم مثل هكذا طلبات وكما تجاهلت الإعلام الدولي تقرير منظمة العفو الدولية والذي يتحدث عن مزاعم استخدام سلاح كيماوي ولم يستدعي أي تعاطف دولي أو تحقيق جاد فإن الحكومة السودانية لو أعادت إعلان  الحرب بعد رفع العقوبات الدولية عليها فلن تخرج إدانات دولية لذلك مثل التي خرجت في 2011م حيث أن المجتمع الدولي بات على قناعة أن المواقف المعرقلة للسلام على المزاج الأمريكي معرقل من قبل ( الحركة الشعبية ) لا من قبل الحكومة السودانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.