شعار قسم مدونات

مئة يوم يا أبي

blogs - محمود حسين

هل يحسب الناس الأيام كما نحسبها نحن يا أبي؟ نعد ساعاتها ودقائقها وثوانيها، 100 يوم مرت منذ خرجت مقيدا منهكا، منذ أدرت ظهرك المتعب من طول التحقيقات وقلة النوم، واختفى صوتك الذي كان يأتينا يوميا، متصلا مطمئنا، مهما كان انشغالك وانهماكك في العمل.

 

ملايين من المصريين يعيشون خارج بلادهم، خرجوا طلبا للرزق وسعياً للعيش الكريم، واحد منهم يدعى: محمود حسين. لم يعتد الابتعاد عن بلاده وأهله فترة طويلة، لكنه احتمل الغربة واكتفى بالزيارات المتكررة للاطمئنان على العائلة الكبيرة التي يرعاها ويقوم على شأن أفرادها. إلا أن الزيارة الأخيرة اختلفت عن سابقاتها، فهذه المرة استقبلته القيود بدلا من الأحضان، وظلام الاعتقال بدلا من دفء سريره وسط عائلته المتلهفة عليه، فهو الذي وصف دائما أنه يحمل الروح إلى جلسة العائلة، ويبث فيها الحياة، ويجتمع الكل حوله صغيرا وكبيرا.

 

 محمود حسين، المصري العامل بالإعلام والصحافة منذ 29 عاما، نقل فيها أصوات المصريين، أفراحهم وأحزانهم، احتياجاتهم وإبداعاتهم، وعندما ثارت الجموع أسرع ليسمع صوت بلاده للعالم الذي شهد لها بالمجد.

 

محمود حسين هو الأب المربي والصديق، هو الذي دفع بنا إلى الكتاتيب لنتدارس القرآن الكريم، واصطحبنا للمسارح لتتشبع أرواحنا بالفن، وأسمعنا الأغاني والألحان والمقامات والكلمات شارحا المعاني الظاهرة والخفية حتى أوجد فينا ذوقا وحسا

كانت البداية في "الأهرام" ثم في الإذاعة ثم في قطاع الأخبار المصري، ثم قنوات عربية مختلفة، إلى أن عمل مؤخراً بقناة الجزيرة الإخبارية، بعلم الجميع وبكل التصريحات، وعمله خير شاهد على أدائه، ولو كلف محتجزوه أنفسهم عناء البحث على محرك غوغ ، لوجدوا  فيه نموذجا مهنيا  مشرفا، ولعلموا أن أبي لم يلفظ كلمة واحدة تضر بمصلحة وطنه، الذي إليه ينتمي لا إلى غيره، ولو بحثوا في تاريخه لوجدوا مناقب كثيرة لا يهوى صانعها الكلام  عنها أو الترنم بها في المجالس وعلى الشاشات. "رسالتك خُلقك ومبدأك، وبرهانك عَملك" عبارة طالما رددها والدي على أسماعنا مؤصلا بها أحد أعمدة فكرنا.

 

محمود حسين هو الأب المربي والصديق، هو الذي دفع بنا إلى الكتاتيب لنتدارس القرآن الكريم، واصطحبنا للمسارح لتتشبع أرواحنا بالفن، وأسمعنا الأغاني والألحان والمقامات والكلمات شارحا المعاني الظاهرة والخفية حتى أوجد فينا ذوقا وحسا يقدر على تمييز الفن الثمين، وقدم إلينا كتب الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ واللغة لننهل من الثقافة ما استطعنا. هو الذي أخذنا للموالد والمقاهي الأثرية، لنتنسم عبق الروح المصرية بكل جذورها الحية والخالدة، وهو الذي أشركنا بعمق في كل ما مر على الوطن من أحداث، حتى لا ينفك الترابط أبدا.

 

نعم لقد علمنا أبي كل هذا لنواجه المصاعب، ونمضي في الطريق، وما زلنا نستلهم القوة على المضي قدما، لكن أن يعتقل أبي مئة يوم باتهاماتٍ باطلة، دون قضية، وأن يجدد حبسه دون عرض منصفٍ، أو سبب واضح مفهوم أقدر على شرحه وتبيانه لإخوتي الأطفال، أن نمضي إجازاتنا في طوابير السجن الطويلة التي لا تتحرك، في البرد القارس وتحت حرارة الشمس الحارقة، وأن تكون لقاءاتنا بإذن ولوقت حدده آخرون، وأن ننتظر سماع صوته من نافذة سيارة الترحيلات شديدة الضيق، هذا ما لم تعدنا له قط! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.