شعار قسم مدونات

فصل في لوعة الفقد ومرارة العجز

blogs - مريض في مستشفى

حين توفي والدي -رحمه الله- تلقيت الخبر فجأة دون أي مقدمات، لا أزال أذكر يومها كأنه البارحة، فجأة ظهر رقم متصل غير مسجل على شاشة هاتفي وترددت للحظات قبل أن أرد عليه ثم حسمت أمري وأجبت المتصل. لم يمهلني كثيرًا ولم يمهد لأي أمر، ألقى بكلمته إليّ قصيرة، قوية، واضحة ولا تحتمل أي لغط: أبوك مات! لم يكن أمر موت الوالد نفسهُ غريبًا عليّ فقد كنت متابعًا جيدًا للغاية لحالته الصحية عن قرب وأعلمُ جيدًا أن سُننَ الله في خلقه تحكم بذلك. لكني كنت أدافع الفكرةَ وتدافعني مخافة إحساس الفقد والوحشة بغيابه – رحمه الله.

في اليوم الأول لعودتي إلى العمل، اجتمع بي زملاء وأصدقاء وجعلوا يعزونني ويواسوني. اقترب مني طبيب يوناني وأمعن في مواساتي وتعزيتي، سألني عن مرض الوالد وحالته الصحية، وأجبته أنه تُوُفيَ أثناء غسيل كلوي اعتيادي دون أسبابٍ معروفة. كان الزميل يحاول إخراجي من عتمة الحزن إلى أطرافه بالحديث عن الأسباب والمسببات وفتح نقاش علمي بالأرقام والحجج.

يحكي لي الزميل الذي باشر إنعاش الحالة: حين وصلت الحالة كانت قد قضت إلى بارئها منذ دقائق

حيلتنا الشهيرة كأطباء في إغراق الأشياء بكثير من التفاصيل حتى تفقد الأحزان طعمها المر. لكن التفاصيل قادتنا إلى سؤال آخر لم أدر إجابته: هل تم إنعاش الوالد؟ يقصد السائل أن الموت المفاجئ يكون بتوقف القلب وأن التصرف التلقائي في مثل هذه الحالة أن يحاولوا إنعاش القلب بطريقة ميكانيكية بالضغط على القفص الصدري. والحقيقة أنني لا أعرف جوابًا لسؤاله حتى اليوم لكني أعلم يقينًا أن سؤاله أضاف إلى أحزاني مرارة العجز، كون الوفاة داهمتنا وأنا بعيدٌ عن السيد الوالد نوّرَ الله قبره. وحتى اليوم لا يزال طعم الفقد ومرارة العجز في حلقي لا يغادره.

ذكرني هذا بصديق عزيز عليّ، ذهبت في صيف عام 2008 أعزيه في جدته -رحمها الله- وقد كانت وفاتها حديث زملاء العمل كونها حدثت في نفس المشفى الذي نعمل فيه جميعًا. حين أبصرت الصديق، رأيت في عينيه عجزًا لم تعرفه شخصيته النشطة. كان الشاب الذي لم يتعد السادسة والعشرين من عمره قد انطفأ، وامتلأت عيناه بنظرة خاوية. حادثته وحدنا وشددت من أزره، أعلمته بما أرى من حاله فانهار على الفور وشرع في البكاء. كان قد عاد إلي بيته فلم يجد الجدة كما هي عادتها تنتظره في شباك البيت، أسرع إلى البيت فوجد العائلة تتحلق حولها وهي ترقد في سرير المرض.

سكون المتحلقين لم يفت في عضده فأصر أن يحملها إلى الطبيب لكنه بمراجعة سريعة لحالتها وجد أنها تعاني من ارتشاح رئوي عنيف وأن جسدها محمل بالسوائل من كل الأنحاء إثر فشل في عضلة القلب. حاول كبار السن من أقاربه أن يثنوه عن نقل العجوز ورجوه أن يتركها تنام هادئة حتى يأتي أمر الله. لكن الصديق لم يكن ليحتمل فقد جدته فأصر وجادل ثم غضب وصرخ وفي النهاية أمضى رأيه: سوف أنقلها حالا إلى وحدة العناية الفائقة. استعان يومها بكل ما هو ممكن وفي النهاية كان لابد له أن ينقلها 300 كم في سيارة خاصة غير مجهزة. وصلت الجدة المريضة لتلفظ أنفاسها الأخيرة على باب أحد المشافي الجامعية بالقاهرة.

يحكي لي الزميل الذي باشر إنعاش الحالة: حين وصلت الحالة كانت قد قضت إلى بارئها منذ دقائق، زرقة الأطراف وبرودها، امتلاء الفم بالسوائل وحالة بؤبؤ العين وعدم وجود أي علامات حيوية. كل هذا كان واضحًا منذ اللحظة الأولى لكننا تحت ضغط من الحفيد المضطرب بدأنا عملية إنعاش لم يكن بها أي أمل… يضيف الزميل: كان الأمر جنونيًا تمامًا، بعد 15 دقيقة من الإنعاش أردت أن نتوقف ونعلن الوفاة، لكني وسط دموعه ورجائه واستغاثته وبكائه ودعائه واصلت لعشر دقائق أخرى. انكسرت ضلوع عدة من صدر المريضة تحت يد المنعشين فأحسست أننا لا نكرم العجوز. توقفت وطلبت من الجميع التوقف. حاول هو مرةً أخرى فرفضت، صرخ وغضب وثار فهززته بعنف وأخبرته بما يهرب منه، قد ماتت جدتك يا صديقي وإنا لله وإنا إليه راجعون. كان عاجزًا للغاية فانهار في يدي وفقد الوعي.

في نهايات فبراير لنفس العام، 2008، كنت قد سبقت الصديق إلى نفس الطريق. كانت ليلةً ليلاء، أمطار غزيرة وسط ريف الشرقية، هذا يعني أن حالةً من انقطاع المواصلات تدوم خلال الساعات التالية. أفقت من نومي على صوت ارتطام لأفاجأ بالجدة في حالة صحية حرجة، كانت مريضة بتليف الرئة وكان مستوى الأكسجين وثاني أكسيد الكربون مختلًا تمامًا. المهم، بعد معاناة لمدة 12 ساعة وصلت بجدتي في سيارتنا الخاصة إلى وحدة الرعاية الفائقة بالمشفى الجامعي الذي أعمل فيه.

كان وعيها قد تدهور لدرجة شديدة، وأظن أن إصاباتٍ بالغة قد طالت مخها جراء الحرمان الشديد من الأكسجين. في السيارة كانت أعين والدي وجدي وأخي تنطق بالحال، وجميعنا يتحسس دنو الفقد الذي خِفناه طويلًا. بعد 11 يومًا، في تمام الساعة الرابعة فجرًا أيقظني أخي يخبرني أن الطبيب المناوب بالرعاية اتصل به يطلب منه القدوم. سألته يومها وقد ذهلت تمامًا: خيرًا ما الذي يا تُرَي قد حدث! وأجابني: ليس إلا ما كنا نخشى. بعد ساعات كان والدي -رحمه الله- يهز جسد أمِهِ كالمجنون غير مصدقٍ أنه فقدها.. أذكر أن العائلة قد تحلقت ليلتها وبعد إتمام العزاء حول والدي، عمي وعمّتَيّ وأولادهما، ورأينا جميعًا لأول مرة والدي يبكي، تمامًا كطفل صغير.. فقد أمه.

مع الأيام وممارسة الطب يوميًا كحِرفة تصبحُ قدرتك على توثيق لحظات الضعف الإنساني كبيرة جدًا. من بين كل المشاهد الكثيرة التي أحتفظ بها في ذاكرتي تبقى مشاهد كآبة الفقد وسطوة العجز الأسوأ والتي لا يمكنني نسيانها.

الصمت كان البطل في كل الأحوال، الأطباء كفوا عن الثرثرة، الممرضات كفوا عن التذمر، حتى المرضى الآخرون، صمتوا. كان الجميع على غير اتفاق يحترم موقفا جنائزيا لم يعلن بعد.

قبل أيام قمت بمناظرة مريض بسرطان الرئة في مرحلة متقدمة بعد استنفاذ كل وسائل العلاج الممكنة. المريض كان في لحظاته الأخيرة وهو ليس معروفا لمركز الأورام عندنا، بمعنى أننا لم نعالجه من قبل وإنما صادفنا في لحظاته الأخيرة. كان دنو النهاية للرجل واضحا للغاية، عيناك لا تخطئ كل هذه العلامات الحيوية المتدهورة والوجه الشاحب والنظرات الزائغة. أما أنفك فتشم رائحة الموت كأنك توشك أن تصافح ملك الموت على باب الغرفة.. المريض لم يصطحب معه أوجاعه فقط، بل عائلته كذلك، وهم بدورهم جاؤوا بأطنان من الحزن وكآبة المصيبة.

الرجل لم يتعد الخمسين ولم يرزق بأولاد لكنه قام بتبني طفلين مع زوجته. الصبي في التاسعة، والابنة في السابعة من عمرها. وبدا لي في مظهرهما الهادئ، الواجم، وغير المتفهم لما يحدث كأنهما رفقة ملائكية ما. كان الصبي مصفف الشعر كأنه أحد نجوم أربعينيات هوليوود. أما الفتاة فعقصت شعرها الأشقر الجميل وبدت بالورود التي تقبض عليها بكلتا يديها وعينيها المتسائلتين كمن تبحث عن مدد ما أو تنتظر عونا من السماء.

الصمت كان البطل في كل الأحوال، الأطباء كفوا عن الثرثرة، الممرضات كفوا عن التذمر، حتى المرضى الآخرون، صمتوا. كان الجميع على غير اتفاق يحترم موقفا جنائزيا لم يعلن بعد. الأخصائية السيكولوجية أشارت أننا ينبغي أن نعلم الأطفال بالحقيقة وأن نساندهم نفسيا.. نظرت إليّ كأنها تسألني عن رأيي فأجبتها: هل ينبغي أن يفقدوا والديهم مرتين؟ لم أدر ما قالت بعدها، لكني بعد ساعات قابلتها وهي ترافق الطفلين، الصبي ذو الشعر المصفف الناعم والجميلة القابضة على حزمة الورود. كان يعلو ثلاثتهم حزن عميق، لكني أقسم أني رأيت الضياع في وجه الفتى والفقد في عيون الفتاة.

 ناظرت المريض للمرة الثانية قبل إمضاء تصريح الدفن، بجوار الرجل جثت زوجته في خشوع فاستأذنتها بلطف إذا كان مناسبا أن أكشف الجثمان المسجى لإلقاء نظرة فحصية أخيرة عليه. أومأت في تفهم ورفعت وجها تغرقه الدموع. لم تسعفها اللحظة فأعطيتها منديلا تمسح به دموعها فأسرعت باستعماله في أناقة غير متكلفة. انتظرت للحظات حتى هدأت ثم أبلغتها تعازيّ الشخصية ومواساة فريق العمل. فتح الباب لتدلف ممرضة القسم والأخصائية النفسية واستشاري القسم، تبعهما الطفلان في حذر وجعلا ينظران للجثمان في حيرة!

لا يزال منظر الرجل باكيا يهتف: تركوك يا ولدي، تركوك يا ولدي ـيشير لرفضهم علاج ابنه المريض- يهزني ويذكرني بوجوه الأطفال الحائرة في حضرة الموت هنا في غرب ألمانيا.

كانت الفتاة مأخوذة، فاحتضنتهما الأم وأغرقت وجهها من جديد بالدموع الحارة. انسحب فريقنا في هدوء وبدأت في توقيع أوراقي الخضراء اللعينة. شهادة وفاة طبية وفق قانون ولاية نوردراين ويستفاليا. كعادتنا نحن الأطباء في طرح الأسئلة السخيفة تساءل أحدهم عن جدوى حجز المريض في هذه الحالة؟ ألم يكن من الأجدى نقله لبيته مع خدمات تلطيفية (Palliative) معاونة! سارع الاستشاري باستنكار الفكرة تماما، امتعض وجهه، هز رأسه كأنما ينفض المنطق القاسي للفكرة عن رأسه ثم هتف: نحن لا نعالج الحالات المجدية فقط، دورنا ليس فقط وصف الأدوية وإنما مثل هذا التضامن الشعوري مع أهل المريض من صميم عملنا في مركز أورام الصدر. سكت قليلا ثم أضاف مرة أخرى وهو يهز رأسه: لا لا لا هذا غير معقول.

لم أدر لماذا خفق قلبي مرة أخرى وأنا أتذكر وجه الرجل الأربعيني الصعيدي الذي قابلته يوما في شوارع القاهرة باكيا يحمل طفلا صغيرا توفاه الله إثر سرطان الدم. كان الرجل يبكي وقد بلل العرق عمامته وياقة قميصه الصعيدي، وأغرقت الدموع وجهه، يهز الطفل وينظر إليه وينخرط في بكاءه وهو يسير في طريقه لا يلوي على شيء. أوقفه أحد المارة وعزم عليه أن يستظل، توقف الرجل فجعل المارة يهدؤون من روعه ويصبرونه.

كان والدي معي فأطرق برأسه وجعل يسترجع ويحوقل وعلتنا جميعا كآبة. كان الرجل الصعيدي قد حمل الطفل المريض إلى مستشفى سرطان الأطفال الشهير ولم يكن يعلم أن السادة البكوات قد اتخذوا قرارًا (أخرقًا مثل متخذيه) ألا تتم مناجزة أي طفل مريض طالما ارتكب أهله الخطيئة الكبرى وسمحوا بمناجزة الطفل بعيدا عن المستشفى المقدسة الفندقية التي لا تتسع إلا لعدد قليل.

لا يزال منظر الرجل باكيا يهتف: تركوك يا ولدي، تركوك يا ولدي ـيشير لرفضهم علاج ابنه المريض- يهزني ويذكرني بوجوه الأطفال الحائرة في حضرة الموت هنا في غرب ألمانيا… وإنا نعوذ بك من الفقد وعجز الرجال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.