شعار قسم مدونات

نكهة عربية

blogs - food

عبق الزعتر الفلسطيني يعرّش في زوايا غرفتي عندما هممت لجلسة كتابتي المقدسة، صورة واحدة لا تفارق مخيلتي ابداً، تلك الجلسات النسائية المفعمة بروح عربية أصيلة، سيدات جمعتهن صدفة الحضارة والحرص على تدوين بما يمتلكن من مهارة تلك الموائد العربية العريقة وتخليدها، هنّ ليسوا طباخات ماهرات فحسب، هنّ أمهات وسيدات عربيات ابتكروا من المطبخ العربي والنكهة العربية أسلوب حياة جديد، ومبادرة حضارية فريدة من نوعها.
 

منذ حوالي الأربعة أشهر، كنت أبحث عن طبق جديد لتحضيره على العشاء، كنت أرغب بطبق عربي أصيل يأخذني بمذاقه لبلاد الزيتون والريحان التي أشتاقها، من مكاني هنا في بلاد الصقيع الموحشة، كنت أرغب أن أُدخل لمنزلي رائحة بيوتنا الدمشقية ودفئ الشتاء بصحبة أحبابنا الذين افتقدناهم في غربتنا، بحثت تحت كل العنوانين في مواقع الشبكة العنكبوتية، إلى أن لفت نظري ذاك الاسم "نكهة عربية ".

ربما الاسم تقليدي للبعض، لكن الزخرفة العربية ذات الطابع المغربي الملون بالأزرق الذي يذكرني بتلك الأزقة المغربية التي كنت أشاهدها في التلفاز وتسحر مقلتاي شدّ انتباهي بغرابة، تصفحت موقعهم وصفحتهم على الفيس بوك، وجلست اقرأ لساعات غير آبهة بالجوع الذي في جوفي، ناسية تماماً زوجي الجالس في غرفة المعيشة منتظراً طبق العشاء، كانوا يطرحون مواضيعهم بطريقة جاذبة وبأسلوب لبق، قد تجعلك لوهلة من الزمن لا تظن نفسك أنك تقرأ عن طبق طعام أو وصفة لإعداد الحلويات.
 

أنا أثق في السيدة العربية وبأفكارها وأنها تستطيع صنع الحياة من حطام بلا قيمة وتقدم لعائلتها بيتاً مليء بالحب والدفء والجمال.

يفصّلون الحكاية من بدايتها وكيف تتحول هذه الحكاية التراثية لطبق بنكهة عربية كنّا نتناوله في أيام الطفولة ولا نعلم عنه أي شيء أو حتى من أين جاء ولماذا سمي بهذا الاسم، إنجذابي لهم جعلني أراسلهم بلا تردد، كنت أرغب وبشدة الانضمام لهم، والجلوس معهم على مائدة طعامهم الغنية، وجاءني الرد بالترحيب والسرور، من سيدة عربية ذات أصل زعتري " قادمة من بلاد الزعتر المقدسي"، عرّفتني بمبادرتهم ودخلت عائلتهم البسيطة التي تتكون من ٨٤ سيدة من مختلف بقاع الوطن العربي، جمعتهن مائدة الحب والياسمين.
 

أما عن تفاصيل المبادرة، فلست هنا يا سادة لتحويل المدونة إلى حملة إعلانية، لكن كم من أناس كانوا يستخفون من دور السيدة في مطبخها ؟! وكم من أم تعتبر أن مطبخها هو مقبرة أحلامها وأن العالم خارج حدود هذا المطبخ ليس بحاجة إلى ما تصنعه في فرنها؟!

هؤلاء السيدات يدافعون عن حضارة بأكملها من خلال مطبخهم الصغير وعدسة كاميراتهم المحترفة في تصوير ما يصنعونه من حب ومذاق عربي دافئ، هؤلاء السيدات يوثّقون كل شهر تقريباً في مدوناتهم المختلفة، طبق عربي يستضيفونه من دولة عربية معينة، ويفجرون مواقع التواصل الاجتماعي بإطلاق "هاشتاغ" طبق هذا الشهر في وقت واحد، لنرى الجمال من حولنا في كل مكان، ونعيد تلك الروائح العبقة الى موائدنا التي ابتعدنا عنها كثيراً في غربتنا وفي ظل اجتياح مطاعم الوجبات السريعة لحياتنا الروتينية الغير صحية.
 

هنّ سيدات أدين لهن بالكثير، تعلمت منهن كيف أصنع الجمال في بيتي وأبث حضارتي العربية بكل فخر في المحافل الغربية، أصبحت أتغنى وبكل سرور وبهجة بأطباقنا العربية، وتعرفت إلى حضارات بلاد المغرب ومصر ولبنان وكثير من النكهات الاخرى.
 

ما وجدت طريقة لشكرهن إلا أن أدع قلمي يعبر حقاً عما يجول في قلبي، أنا أثق في السيدة العربية وبأفكارها وأنها تستطيع صنع الحياة من حطام بلا قيمة وتقدم لعائلتها بيتاً مليء بالحب والدفء والجمال، أؤمن بأن كل إنسان من موقعه وبقدراته يستطيع أن يترك بصمة له في مكان ما من هذا العالم، سعيدة جداً لأكون جزءاً من مائدة هذه النكهة، أن أحافظ ولو بجزء بسيط على تلك الوصفات التراثية وأن أقدمها لأطفالي، فأنا أؤمن حقاً بأن زعتر فلسطين وزيتونه، وعنب سوريا، وأرز النيل وثمار الوطن العربي، ما من أحد تذوقهم إلا وصار أسير تلك النكهة العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.