شعار قسم مدونات

مولانا الفيلم ومولانا الرواية

blogs - مولانا
أثار انتباهي النجاح الكبير لفيلم مولانا والذي حقق إيرادات عالية جدًا في أيام معدودة، في بلد يشتكي مواطنيه من ارتفاع أسعار السلع الرئيسة، حيث وصلت إيراداته لـ 12 مليونا و200 ألف جنيه، خلال فترة عرض خمسة أسابيع، وذلك وفقًا لما ذكرته صحيفة "المقال"، والتي يرأس تحريرها إبراهيم عيسى مؤلف الرواية التي صِيغ الفيلم منها، فدفعني الفضول لشراء الرواية، ومشاهدة الفيلم، وحاولت الاطّلاع على بعض أعمال عيسى المطبوعة مثل: (رحلة الدم، دم الحسين، أشباح وطنية، مريم التجلي الأخير، اذهب إلى فرعون).

ولقد وجدت تباينًا بين الشخصية التي رسمها عيسى لمولانا "الشيخ حاتم"، وبين ما عُرض على الشاشة، وبينا أُقلب في الرواية الضخمة – والتي تُشبه مقالات صحفية تم لصقها تباعًا، وكأن الناشر أراد أن يوفّر في الورق – قفز إلى ذهني اسم رواية "سمرقند" لأمين معلوف، للتشابه في الإطار العام لموضوع رواية مولانا، إذا تجاوزنا البعد التاريخي، ويشاء العلي القدير أن أقع على حلقة من برنامج إذاعي لإبراهيم عيسى اسمه "أمّا بعد"، بعنوان: "عمر الخيام أعظم شعراء الأرض"، واستمعت لها فتأكد حدسي إذ وجدت عيسى يتعرض للشخصيات الثلاث التي دارت حولهم أحداث رواية سمرقند ، وهم عمر الخيّام ونظام الملك، أعظم الوزراء في تاريخ الإسلام كما وصفه عيسى، وحسن الصباغ زعيم فرقة الحشاشين، والذي قال إبراهيم عيسى عنه في هذا البرنامج القصير بأنه أول من استعمل الاغتيال السياسي.

ولا أريد التعليق على إطلاقات عيسى، ولا على الجدل الكبير حول شخصية الخيّام، لكن رسم عيسى لشخصيته – مع وصفه بأنه كان أعظم شعراء الأرض – يدل على اعتقاده بأن الخيّام شخصية مليئة بالتناقضات، وربما حاول استنساخ مولانا الشيخ حاتم من تلك الصورة المغلوطة للخيّام، والمعلوم أن أمثال الغزّالي والزمخشري وغيرهما من الأئمة الكبار وصفوا الخيّام بالتقوى والديانة، مما يجعل نسبة كثير من الأبيات الشعرية له أمرًا فيه نظر، لكن يبدو أن ما استقر في وجدان وعقل المؤلف لرواية مولانا – وربما باللاوعي- أن يُسقط هذه الأحداث التاريخية في رواية معلوف، على الواقع المصري المعاصر، ومن أوجه التشابه بين الروايتين ما ورد في رواية معلوف من أمر السلطان السلجوقي العظيم ألب أرسلان لقادته بمبايعة ولده ملكشاه، وذلك ما أظهره الفيلم بوضوح من حيث تلميحه الجريء حول نجل مبارك، كما أسقط عيسى – في ظني – الصراع الطائفي والسياسي في عصر السلاجقة على عصر مبارك خاصة في مسألة التوريث.

يعود عيسى مرة أخرى ليؤكد تعمده النيل من مكانة الإمام الشعراويّ، فيقول في حوار معه في اليوم السابع: في رأيي لا أحد يستحق تعبير ووصف الإمام سوى محمد عبده.

تكاد تكون رسالة عيسى في مجمل أعماله هي زعزعة القناعات الراسخة عن الشخصيات التي لها مكانة في قلوب الناس، ابتداءً من الصحابة وحتى الدعاة وعلماء الدين، وإثبات أن التاريخ الإسلامي في مجمله عبارة عن سلسلة من الصراعات السياسية على السلطة، يتم استخدام الدين فيها.

أما الفيلم فيجعل من يشاهده يتعاطف مع مولانا الشيخ حاتم، الذي ظهر لي بأنه داعية وسطي يردُّ على الشُّبهات، ويرفض التعصب المذهبي والطائفي، وُينكر بقلبه الظلم والانحراف، ومن سيقرأ الرواية لن يصل لتلك النتيجة أبدا.

ولعل عيسى نفسه لم يعرف مولانا الذي ظهر في الفيلم، مما جعله يقول في حوار له مؤخرًا بأن الشيخ حاتم هو المثال الذي يتمنى أن يكون عليه الداعية!
والمثير للدهشة أنه لم يترك – في الرواية – موضوعًا أُثير إعلاميا في فترة ما قبل ثورة يناير إلا ذكره وحشره حشرًا في الحوارات والأحداث، وكأنها آخر رواية ممكن أن يكتبها في حياته.

ومشكلة الرواية في ظني أنها أرادت إسقاط قيمة ومكانة الداعية عند الرأي العام واستحالة وجود الداعية، فهو إمّا مُتصوف درويش أو متطرف يتمسك بالشكليات، أو وصولي يطلب الوجاهة والمال والشهرة، أو أداة في يد السلطة، ومع ذلك كله قد ينطق بالحق وبالصدق ولا تنقصه الحجة والبرهان.

وهو في خطته تلك ماضٍ استكمالا لما سبق من كتاباته التي لا تخلو من عبارات للنيل من مقام صحابي جليل، أو عالم ٍ له مكانة كبيرة عند الناس، وفعلها مع الشيخ الشعراوي، ولمزه في كتابه "اذهب إلى فرعون"، واصفًا إياه بنفاق السادات عندما قال:
(… كان هذا في نفس الوقت الذي يقف فيه الشيخ الشعراوي على منصة مجلس الشعب… وهو يقول عن السادات في وصلة مدح انجرفت حتى الخطيئة..).

وفي روايته "مولانا"، زجّ بمشهدٍ معروف لدى المقربين من الشيخ الشعراوي ونسبه للشيخ حاتم بطل الرواية، وهي مُكثه في مراحيض مسجد الحسين، وكما في نص الرواية "كيف عرف مختار الحسيني أن حاتم موجود هناك في تلك المراحيض يكسر فيها غروره ويضرب فيها غضبه، ويلجم فيها ألمه، ويعاقب فيها ضعفه".

واقرأ معي هذا الكلام للدكتور أحمد عمر هاشم وهو يذكر تللك الواقعة الحقيقية عن الشعراوي، يقول الدكتور رحمه الله: "حضرت ذات مرة مؤتمرًا كبيرًا مع فضيلة الإمام الشعراوي ولمّا أعجب الحاضرون به حملوه إلى السيارة، فخشي الشيخ الشعراوي على نفسه من أن يدخلها خيط من خيوط الإعجاب فعاد إلى منزله بسيدنا الحسين وانتظر حتي جاء وقت الفجر وراح ينظف في حمامات مسجد الحسين …".

أؤكد تحيتي لكاتب السيناريو الذي حول ذلك الكتاب الضخم لهذا الفيلم، الذي جاء أفضل بكثير من رواية مولانا إبراهيم عيسى.

ويعود عيسى مرة أخرى ليؤكد تعمده النيل من مكانة الإمام الشعراويّ، فيقول في حوار معه في اليوم السابع: "في رأيي لا أحد يستحق تعبير ووصف الإمام سوى محمد عبده… أمّا الشيخ الشعراوي فأخذ حقه جماهيريًا وهو تجربة الشيخ التلفزيونى بامتياز… وله خطوط أساسية ضد الآخر وأفكاره ضد المرأة وضد العلم وجوهر محاوره السلفية والوهابية، وأفكاره تقليدية وسلفية… وأيضا اشتراكه في عالم السياسة كان بائسا… احنا أمام رجل آراؤه السياسية غير ناضجة وغير واعية وساهم في تأليه وتقديس الرؤساء".

ورأيه ذلك في عالم في وزن الإمام الشعراوي يعكس كيف يفكر عيسى، فالرواية تحاول تشويه حتى المتفق عليهم جماهيريًا، وتضع ما ينبغي أن يكون ممدوحًا إمّا في إطار السخرية، أو في إبهام وغموض، وأضف لذلك عبارات على لسان حاتم نفسه تارة وهو يقول لأبيه: "أنا تاجر دين"، وتارات أخرى على لسان الراوي وهو يقرر بأن تبسُّط الشيخ حاتم وكلامه بالعامية ووقاحته أحيانًا كأنه يريد أن يثبت للناس أنه قريبٌ منهم وليس قريبًا من الله، فضلا عن السّب الذي أجراه على لسان الشيخ حاتم، والذي لا أستطيع ذكره لفُحشه.

وهذه الصورة المغلوطة أراد عيسى بها ضرب كل الاحتمالات بكرةٍ واحدة، فقد يخطر ببالك مع بداية الرواية أنك أمام شخصية مثل عمرو خالد مثلا من حيث نجاحه الإعلامي وتبسيطه المعلومات الدينية وعقد الدروس في استديو مفتوح للجميع، فيه المحجبة وغير المحجبة، وكذلك علاقته بالطبقة الحاكمة والقريبين منها، لكنك ستكتشف أن هذه الشخصية المرسومة على شاب أزهري قروي لا تنطبق قط على عمرو خالد، وإن أجريت التباديل والتوافيق ستخرج بنهاية واحدة غالبا أن الجميع مطعون في عدالتهم، لكني أؤكد تحيتي لكاتب السيناريو الذي حول ذلك الكتاب الضخم لهذا الفيلم، الذي جاء أفضل بكثير من رواية مولانا "إبراهيم عيسى".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.