شعار قسم مدونات

كلُّ الأيام أيامكِ سَيِّدَتي

blogs- يوم المرأة العالمي

عندما تخرجُ الفتاةُ مِن بيتِ أبيها، تكونُ محمّلةً بحقائبٍ من الأحلام والذكريات، فمَن يمعنُ المتابعة في بيوتنا يعلم أن الفتاة في معظم هذي البيوت هي "حبيبة" والدها، وأنّ جُلُّ هذا الحب يتراءى لعيانِ القلب في لحظة خروج هذه الفتاة من بيت أبيها، تُزَفُّ إلى مَن ستبدأ معه العمر من جديد.
 

علَّ صديقتي التي خرجت من بيت والدها بجمالها وفستانها الأبيض لم تنتبه لعيونه التي انهمرت بكاءً لحظة نزولها لدرج بيتهم مع شريكَ حياتِها، وعلّ تلك الأخرى لم تعلم أن والدها وقفَ تحت بيتها يبكي قبل أن ينزل ليقف مع النّاس في فرحها.

في اليوم العالميّ للمرأة يتراءى إلى ذهني كلُّ مَن أعرف مِن فتياتٍ يكبُرنَ في بيوتِهنَ وتبدأ الأنوثة تظهرُّ عليهنّ، فأتخيّل لسانهنَّ المعسول، وحنانهنَّ الفطريِّ وأتخيّل إلى جانب ذلك هذا الرجل الذي يأتي ليأخذَ فتاةً من بيت والدِها "على سنة االله ورسوله" أتراهُ يعلم معنى الميثاق الغليظ الذي يقرّ عليه؟ أو هل تراه يدركَ بأنّ هذه الزوجة التي أصبحت في عهدته اليوم هي ابنةٌ لأبٍ تمنّى يوماً لو يهبها السعادة كلّها؟ أيتذكّر في كلِّ مرةٍ أن زوجته هي ابنة لأبٍ ما كان ليمنحها له إلاّ لأنها سنة الحياة، أتراه لاحظَ عندما وقّع على عقدِ قرانها ووضعَ يدهُ في يد والدها أنّ الكلًّ كانَ فرحاً سعيداً مبتهجاً وكان هذا الوالِدُ هوَ الأشدُّ قلقاً والأكثر خوفاً؟ أتراهُ يعلمُ جيداً في كلِّ مرةٍ يُحزِنُ زوجتَهُ أو يخونها أنّ هناكَ من قد يحزنُ ابنته أو يخونها يوماً؟ وفي كلِّ مرةٍ يُنصِفُها أيتخيّلُ بذلكَ كيف يحبُّ لابنته أن تُعامَل؟
 

في اليوم العالميِّ للمرأة لا أخشى على المرأة وحدها إذا ظُلِمَت أو انتهكَ حقّها بل أخشى على مجتمعٍ بأسره، فبيوتنا ستبقى بيوتاً قلقة إن لم تكن المرأةُ في داخلها مطمئنة، ومجتمعنا سينمو أجوفاً إن لم تأخذ الأنثى فيه مكانَها الحقيقي.

في اليوم العالميّ للمرأة، وكفتاةٍ كبُرَت في "بيت بنات" لا ذكورَ فيه، أّدرِكُ أنّ مجتمعاتنا لا تزال تملكُ الكثير من التحديات، وأن الحياةَ في بيوتنا ليست ورديّةً ولا عاطفية على الدوام، وأنّ الفتيات لا يعشنَ دوماً في حياةٍ مُنصِفة. أعرفُ جيداً أن الفتاة قد تُظلَمُ في عملها، وقد يُستهانُ بها في بيتها، وقَد يسعى الكثيرون لإفقادِها شأنها، وأنها ستواجِهُ تحديّاً بألّا تقعَ في فخِّ مَن يريدها جسداً لا أكثر، وألّا ترضى بأن يراها المجتمعُ كمثارَ شهوةٍ لا غير، بل ويصوّر ذلك لها على أنَه تعريف النسوية وأساس الحرية.

أعلَمُ بصورةٍ واضحةٍ أنّ على الأنثى أن تبذل جهداً مضاعفاً كي تخرجَ للمجتمع مثقفةً وعاملةُ ومربيّةً وذات فكر، وأن تُحافظَ في الوقتِ نفسه على عفّتها وأسُسِها ومبادئها. لكنني إلى جانب ذلك كلّه لا أجدُ داعماً حقيقياً للمرأةِ أكثر من بيتها التي نشأت به، ووالدها الذي اعتنى بها، ووالدتها التي علّمتها، وقرارها هي بذاتها.

في اليوم العالميِّ للمرأة لا أخشى على المرأة وحدها إذا ظُلِمَت أو انتهكَ حقّها بل أخشى على مجتمعٍ بأسره، فبيوتنا ستبقى بيوتاً قلقة إن لم تكن المرأةُ في داخلها مطمئنة، ومجتمعنا سينمو أجوفاً إن لم تأخذ الأنثى فيه مكانَها الحقيقي.
 

في اليوم العالميّ للمرأة أرى صورة جدّاتنا وأمهاتنا وكبارِ نسائنا وهنَّ يزرعنَ الأرض ويخِطنَ الثياب ويروين الأشعار ويغنين الأهازيج ويحكون القصص ويعلِّمنَ الأدبَ والقيمَ. فعندئذ كانت البيوت أكثرَ دفئاً وأعظَمَ رباطاً وأشدَّ وثاقاً.
 

في اليوم العالميّ للمرأة أعلمُ أنّ كثيراتٍ أولئك الذين سعين واجتهدن حتى وصلن ليومٍ يتكلم فيه العالم كلّه عن المرأة ولأجل المرأة وبما يخدم شؤونَ المرأة وللدفاع عن حقوق المرأة ووللعمل على تمكين دورِ المرأة، لكنّي في هذا اليوم العالمي أقرّ وأعترفُ بأنّ العالم لا يحتاجُ يوماً واحداً للمرأة، بل يحتاجُ امرأةً تعرفُ كيفَ تمتلكُ كلّ الأيام؛ لا تتيه في تعريف نفسها، وتعرف كيف تتقدّم للمجتمع بجهدها ووعيها وفِكرها، وتعلَمُ جيداً أنَها مناطُ التربية وأساسُ البيوت. يحتاجُكِ العامُ يا سيدتي قويةً، واقفةً على أرضٍ صلبةٍ من الجهد والثقة والاحترام.
 

يحتاجُكِ العالم يا سيدتي بحنانكِ الذي منحتيه لأسرتِكِ وأنتِ تكبرينَ فيها يوماً بعدَ يوم، بفطنتكِ التي وُهبتيها، بوفائكِ الذي بُنيَت روحكِ عليه، بطُهرِكِ الذي لا تليقُ الأنوثةُ إلّا به، بثقتكِ بنفسكِ وعلمِكِ وتربيتكِ ومكانتكِ ودوركِ، يحتاجُكِ العالم يا سيدتي كما أنتِ؛ فتاةُ والديكِ، وسرٌّ فخرهما، واستجابة دعائهما -أحياءً كانا يحفظهما الله لكِ أم موتى يرحمهما اللهُ بكِ-؛ فعندها ستكونُ كلُّ الأيامِ أيَامكِ سيدتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.