شعار قسم مدونات

هتّان هتون

blogs - hatoon
إذا كنت تظن أنني سأناقش صحة سند أو تأويل متن بتفصيل شرعي يسوق الأدلة فلن تجد ذلك هنا.

المطر يسقط على نافذة سيارتي وأنا أقودها لمقر المحاضرة، وفي ذهني تصورات رسمها عراكٌ على تويتر حول إعلان مناظرة: المرأة في الإسلام، بينها وبين دكتور من كلية الشريعة في جامعة قطر، أنتج وسمًا يحرجني أن أضعه في المقدمة، أُجِّلَتِ المناظرة ولازلت بانتظار الموعد الجديد، ثم رأيت صدفة إعلانًا لمحاضرة أخرى لها، تسللت من هتون السماء لأسمع هتونًا آخرًا.

نظام الوصاية في الخليج، هذا هو عنوان المحاضرة الجديدة التي أقيمت في جامعة جورجتاون، ولعل ذلك سهل إقامتها دون إلغاء، يقال أنه إذا أردت ألا تهاجم من قِبل العَرب فاكتب فكرتك بالإنجليزية، وهي حيلة يلجأ إليها كثيرون حين يودون طرح أفكارهم بعيدًا عن التنمر، وإن كانت هذه الحيلة تضعف الصوت لكنه في النهاية يصل.

(طرد_هتون_الفاسي)، هذا هو الوسم، وهتون أستاذة سعودية تدرِّس تاريخ المرأة في الجامعة. يمكنك المطالبة بطرد أي إنسان سوى أن يكون أستاذًا في جامعة، حيث الحوار المفتوح وعقول آن لها الخروج من فقاعتها لتواجه الحياة، وتكوِّن قناعاتها بعيدًا عن الأفكار المعلبة، دون إبقائها في بيئة معقمة أو وسط عسكري تحكمه قاعدة (نفذ ثم اعترض)، يُطرد منه المرء دون أن يعرف، سهل أن تُحَوَّلَ الجامعات لعسكريات، ولكن هل نحتاج لمجرد جنود، يشبه أحدهم الآخر؟

جلَست في مقعد أماميّ ومعي -للأسف- تصوراتي المسبقة التي شكَّلها ذلك الوسم، توقعت أن يكون حديثها نسفًا لثلاثية الدين والمجتمع والمرأة المختَلفة عنها، وكنت متأهبة لتصنيف أي فكرة وفق تلك الثلاثية، لكنني لم أنجح!، بعد أن عرضت أفكارها انتقل النقاش للمسرح الذي امتلئ بحضور متنوع من السيدات وبعض الرجال، ساهم الجميع في إثراء النقاش، البعض انتقد مستعدًا بردود جاهزة مكررة، والآخر أيّد من واقع يواجهه، وجزء كان يدعم الطرف الأول والثاني، جَمَعتُ من الندوة أفكارًا كنت أظن أنني أعرفها مسبقًا، لكنني تأكدت من بعضها، ورأيت الآخر على أرض الواقع، أسرده في القادم.

أهمية الاستماع للحق كأهمية قوله، ولا يمكن لمتحدث أن ينصت، ليس شرطًا أن يتحدث مع أحد فغالبًا يَحرم المرء نفسه من الاطلاع على آراء مغايرة لأن محاوِرَه الوحيد هو الشخص الذي في عقله، والذي يمنعه من السماع للآخر إلا بعين تصوراته ومن خلال أُذُنٍ اعتادها، فيبدأ بالهجوم وكأنه لم يستمع لما قيل، وقد يرتفع صوته وتعلو نبرته.

ما انتبهت إليه هو استماع هتون بكل هدوء ودون مقاطعة والرد برقي، على جميع التعليقات التي كان منها ماهو خارج الموضوع ومنها ما تطرق لحالات فردية لا تعمم وأخرى تمس ولاءها لوطنها، في وقت كدت أقف فيه وأرد لولا أنني رأيت منها تطبيقًا عمليًا للحق الذي لا يحتاج إلى صراخ. في أحيانٍ كثيرة تؤذينا تصوراتنا حول الشعر المنكوش والصوت العالي والمظهر القاسي والعادات المضروب بها، والرغبة في التسلط لكل نسوية تدافع عن المرأة وتجعلنا نعمم في مغالطة، أن أي دفاعٍ عن المرأة سيكون بهذا الشكل، فنظلم الدفاع ونظلم المدَافع عنه.

تمكين المرأة في الأساس قبل القشور، نسمع عن أول وزيرة وأول مديرة، ولكن ماذا عن الطبقة التي لا تستطيع ما يَسهل على الوزيرة والمديرة، وعلى اختلاف الأوضاع في الخليج، لماذا تضطر المرأة وقد بلغت الأربعين من عمرها أن تصدر ورقة لا مانع لتسافر من يوقعها مراهق تعوله؟

الدفاع عن المرأة ليس هجومًا على الدين، هذه الثنائية تسيء للدين إذا سلَّمنا أنه أتى للدفاع عن المرأة، وتظلم من أتت تبحث عن حقها في حدوده ونقاشاته بتطبيق قانون يدعمها أو رفض تقليد مجتمعي يعيقها أو جلب مصلحة تدعم الضرورات الخمس، خارج إطار المشهور في أول 3 نتائج للبحث على قوقل في مواقع معروفة تعرض آراء معتادة لعلماء لهم كل التقدير لكن منها ما تجاوز الزمان والمكان ولم يعد يأتي بالمصلحة.

لا ننكر أن موضوع المرأة أحد مداخل النيل من الإسلام، لكن على هذا الهاجس أن يتوقف حين يكون الدفاع عن المرأة في مجتمعنا والنقاش في حقوقها وسط معتقداتنا ومن خلال قوانيننا دون رفض مسبق وقبول مجمل، وإلا صَدَق القول وكان من يطبق الإسلام بهذا الفهم هم من يؤكد أنه لم ينصفها! خصوصًا حين يكون النقاش على أَمر مختلف فيه بواقع ظروفه: كاشتراط المحرم في السفر أو توليها القضاء.

تمكين المرأة في الأساس قبل القشور، نسمع عن أول وزيرة وأول مديرة، ولكن ماذا عن الطبقة التي لا تستطيع ما يَسهل على الوزيرة والمديرة، وعلى اختلاف الأوضاع في الخليج، لماذا تضطر المرأة وقد بلغت الأربعين من عمرها أن تصدر ورقة لا مانع لتسافر من يوقعها مراهق تعوله؟ ولماذا لا يمكنها الزواج من أجنبي إلا بعد موافقة الدولة؟ ولماذا لا يمكنها أن تمنح أبناءها جنسية وطنها؟ لماذا تعتبر ذات أهلية كاملة في العقوبات ومنقوصة في الحقوق؟ لماذا لو أرادت إصدار رخصة لتقود السيارة أن تقدم ورقة لا مانع من ولي أمرها، لماذا لا تقود السيارة أصلًا، ولماذا تحتاج لموافقة ولي أمرها في حال أرادت أن تشتكي عليه؟ كل تلك الأمثلة مع اختلافها لا علاقة لها بالدين، وليست في المجتمع بمنظور واحد، لكنها تحتاج إرادة قانونية بعيدة عن المبرر الديني والعذر السياسي.

ما تنعم به، ليس عند الجميع، وحصولك على حقك، لا يعني أن الآخرين يكذبون، تعيشين في بلد يكفل أدنى حقوقك وفي أسرة محافظة متفهمة، تحترم المرأة، وتراها شرفًا لا عيبًا، مع النقاشات التي لابد منها والتي لا يخلو منها بيت هذا مجتمعه، لكن كثيرًا من صديقاتك يجدن صعوبة في ممارسة الحياة بأول خطوة يخطينها في الخارج إلى المدرسة والجامعة والعمل والمستشفى والمشروع والحديقة والندوة والمعرض والفعالية والنادي، ولا ترد أوراقهن في كل يومٍ بـ: لامانع، ولا يتمكن من الوصول إلى طموحاتهم بفرصٍ ضاعت ولم يعد من الممكن اللحاق بها. نحن لا نستورد حربًا في دولة قريبة أو بعيدة لننهيها هنا، لكننا نؤمن بحق النساء كلهن في أن يمارسن حياتهن الطبيعية.

سد الذرائع لا يكون بجلب المشقة، انتقدت مداخلة إعطاء الحرية للمرأة خوفًا من أن تصبح بلداننا كالغرب ممتلئة بالمومسات ودور العهر، يتداول هذا الخطاب التخويفي في أمور كثيرة، لكنه يبدو هنا وكأنه الخلاص النهائي الذي تريد المرأة أن يتحقق لها، هل ستؤدي موافقة على السفر لحضور فرح أقارب، أو مشاركة في مؤتمر علمي إلى كل ذلك! إن استدعاء خيالات جامحة ومتهمة لأخلاق المجتمع الذي تشترك فيه المرأة فيه مع الرجل كحجة تقييد لمصلحة، كمن يقول نردم البئر فلا يسقط أحد ولا بأس أن يعطش الجميع، دون أفكار أخرى للاستفادة منه دون أن يقع أحد ونرتوي كلنا.

وقفت هتون في نهاية الندوة، وقالت بكل هدوء: بالرغم من كل شيء تذكروا أن تنوعنا قوة، ومحاولة جعل صوتنا واحدًا ليس إلا إضعافًا، نحن لا نريد لدفاعنا أن يواجه الرجل فيخطئ الهدف هو شريكنا، ولكنه يجب أن يكون في المطالبة بما نحتاج، من السياسي والقانوني، لنمكن المجتمع الذي يحتضننا. كانت تلك من أجمل المحاضرات التي حضرتها وخرجت منها بغير التصور الذي أتيت به، وتأكدت أن الطريق على طوله فيه كثيرون بأفكار مختلفة و وجهة واحدة، عدت إلى لسماء وقد انقشعت غيومها وتوقف المطر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.