شعار قسم مدونات

يا رب أبوك يموت

blogs - طفل يبكي

تحكي أمي عن قريب لها توفي أبوه قبل زمن طويل، وبينما هو يشرب الماء من براد المدرسة، دفع بغير قصد منه طفلة أخرى يتيمة – حديثة في اليتم على ما يبدو-، فبكت وقالت له بقهر "يا رب أبوك يموت"، نظر إليها الطفل باستغراب وقال لها بتعجب "ما هو مات من زمااااان".. تتكرر الحكاية في عائلتنا كطرفة عن طفل يتيم مسكين اعتاد اليتم حتى لم يعد يؤلمه، ولا يبكيه، يبدو اليتم كشيء عادي لا يدعوه للبكاء أو الشعور بالقهر إن دفعه زميل أو زميلة من على براد المدرسة، يتطبع مع اليتم حتى يستحيل معه بكاء المستجدين في اليتم شيء غرائبي يدعو للدهشة و التعجب، ويبدو اليتم طبيعي لا تبدو معه الدعوة "باليتم" إهانة أو سبة، وتتحول الدعوة لدهشة عن "دلع" الفتاة الصغيرة المستجدة التي لا تفهم معنى اليتم وتراه قهرًا يسيطر على روحها..

أتذكر الصغير والصغيرة اليتيمين وصديقتي تبكي على زوجها المعتقل، تعرف مكانه، معتقل في مكان نظيف وعلى سبيل الخطأ، تراه بشكل يومي وتطمئن، لكنه مظلوم فتجن وتتوالى أسئلتها عن "لماذا؟"، أقدر حزن الفراق، ولكني لاأفهم تمامًا، أنظر لصديقاتي أهل المختفين قسريًا، وأعد من أعرف من أصدقائي الذين رأيت جثثهم تتوالي على الشاشات، وأساميهم في نشرات الأخبار، ثم المقتولين بلا محاكمة، أنظر لأهالي المعتقلين تجاورهم الحشرات وتصادقهم الفئران والثعابين، الذين تجف لحومهم وعظامهم يومًا بعد يوم، وتختفي الملامح تحت القهر والجوع والخوف، أعرف صدق مشاعر صديقتي، الإنهيار الحقيقي والحزن على الزوج والسند ولكن الطفل الصغير المخضرم في اليتم لم يعد يرى بعين المستجدة، يندهش من أحزانها لأنه "مات من زماااان"..

أفكر أنه الوقت المناسب للكف عن لعب دور "يا رب أبوك يموت" والانتقال لدور المخضرمين "ما هو مات من زمان"، والرضا والخضوع والتسليم أن المشقة على قدر الأجر.

أفهم صديقتي وأكثر وأنا أتألم وأشكو لها من الغربة، وأقول "لم أعد أطيق، أريد أمي الآن"، صديقتي التي قتل أمامها وبين يديها عددًا من أحب الأصدقاء، ثم سجنت عددًا من الشهور، ثم خرجت لتسافر هربًا من الأحكام، ثم تزوجت بلا أهل، وأنجبت بلا أهل، يبدو المرار بارزًا من شفتيها، أتمثل بياض الشفتين فيها ليس من الأنيميا بل مما ذاقته من الأيام من المر الذي تبدو كتابته ترفًا جميلًا لطيفًا.. إذ إن المر لا يُعرف إلا بالمذاق!

هنا تتمثل صديقتي دور الطفل اليتيم المتطبع مع الألم، حتى يألفه كهر صغير يداعبه، وأنا الطفلة الساخطة على الدنيا وما فيها، ولكنه "مات من زماااان " ما الذي يدعو للبكاء والقهر الآن؟!

هل يألف الإنسان الحزن فلا يطيق العيش بلاه؟ أظن أنه نعم، إنها اللحظة التي تتطبع أرواحنا بطبع العالم، طبع الشقاء والحزن، اللحظة التي ندرك فيها أن الطبيعي في هذا الدنيا هو القتل، أن الحق لا ينتصر لأنه لطيف، وأن الأشخاص اللطيفين يموتون غالبًا على يد أشخاص أشرار، يقتل الأطفال ذبحًا- بشكل طبيعي-، أما أنت عزيزي الإنسان فسيتحدد مقدار الحزن على روحك حسب جنسيتك التي تحملها في باسبورك، قد تساوي روحك ٢٠٠ روح لأشخاص آخرين ولدوا بلا اختيار منهم في بلد بعيد، غالبًا لن تسمع عنه، وقد تكون أنت من المئتين الذين لا يساوون شيئًا، حتى لو كان جرحك حقيقيًا ينزف الدم، هناك اعتبارات أخرى تجعل الدنيا أصعب مما نحتمل، هل نحن المستجدين في "اليتم"؟ هل نحن متأخري الإدراك الذين لم نستوعب أن هذا العالم لم يعد يحبنا؟ – عفوًا لم يسبق له أن أحبنا لكنها تهيؤات الإدراك المتأخر-.

يبدو شبنهاور حكيمًا حين يقول "ثمة خطأ متأصل وحيد، ألا وهو أننا نعيش لكي نكون سعداء، وطالما أننا نصر على هذا الخطأ المتأصل، سيبدو العالم مليئا بالتناقضات"، ولكني يا شبنهاور لا أريد أن أكون سعيدة، أريد فقط أن تكف الدماء عن الانهمار من نافذتي وهاتفي المحمول، أريد أن تكفكف دموع الأحبة ويجتمع الجميع ويصمت العالم قليلًا، أفكر وأقول إذا لم تكن هذه السعادة؟ فما هي؟

أفكر أنه الوقت المناسب للكف عن لعب دور "يا رب أبوك يموت" والانتقال لدور المخضرمين "ما هو مات من زمان"، والرضا والخضوع والتسليم أن المشقة على قدر الأجر، وأن الطريق طويل، والجلد مر على النفس، والقلب هش لكن لم ينكسر بعد.. ولربما كان هذا هو الانتصار الوحيد الذي قد نحوزه في هذه الدنيا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.