شعار قسم مدونات

ثلاث ساعات في تقسيم

BLOGS- اسطنبول
اسطنبول مدينة لا تحرضك على القراءة إذا كنت من غير أهلها. إنها بالنسبة للغريب مدينة ضخمة تبعث على الرهبة والخوف، الرهبة لاتساعها وكثافة سكانها وحضورها القوي في التاريخ، والخوف من المصير المجهول فيها إذا لم يكن لديك مال ولا سند، وإذا كانت الرهبة ستثير لديك فضول المعرفة، فإن الخوف لا بد أن يفقدك شهيتها.

ومع ذلك فإن مجرد المشي في شوارع اسطنبول وأزقتها يعوضك عن قراءة كتب في أدب الرحلات. لأنك هنا ستلتقي بشعوب كثيرة، وأخلاق كثيرة، ومعالم سياحية كثيرة، وتاريخ كثير. بشرط ألا تطيل المكوث فيها لسنوات، إذا كنت من ذلك النوع الذي ربط مصيره بالمكتبة العربية. لأنك لن تجد في اسطنبول إلا عدداً محدوداً جداً من المكتبات العربية. ومعظم ما فيها من العناوين لا يرضي حاجة الباحث ولا يستهدف المثقف المدني.

خلال هذه العملية سيدور حديث سريع بينكما، يسألك فيه عن بلدك، وهل هو قريب من مكة أم لا، ويخبرك -بعربية ركيكة جداً- إنه من أنقره، وأن ابنه راقد في المستشفى، وأنه بحاجة إلى المال! وعندها تدرك أنك وقعت في يد محتال شريف.

بعد أكثر من عام من المكوث فيها سألت العم "جوجل" عن مكتبة عربية في اسطنبول، فدلني على مكتبة في شارع تقسيم الشهير. اصطحبت رفيقة الدرب وذهبنا إلى هناك. لعلها المرة الخامسة التي أزور فيها هذا الشارع، ومع ذلك لم أستوعبه بعد، وكأني أزوره للمرة الأولى. العنوان غامض وسيارات الأجرة تمتنع أحيانا عن اصطحابك إذا كان المشوار قصيراً مثل هذا، إنه قصير بالنسبة لسيارة أما بالنسبة لمريض مثلي فإنه مشوار طويل.


لم يكن أمامنا سوى المشي والسؤال عن عنوان الهدف. وفي هذا المشوار القصير وقعت أمامنا ثلاث حوادث "عادية" لكن دلالاتها تستحق التوقف قليلاً. ثلاثة حوادث تقول إن المدن الكبيرة تفقد الإنسان الكثير من إنسانيته بالفعل.


الحادث الأول مع شاب عربي – عرفته من لهجته الخليجية مع طفله – اقتربت منه لأسأله عن شارع فرعي محدد. هل أنت عربي؟، أجاب باستهتار: لا، فرنسي!، ومضى. سألتني زوجتي: لماذا هكذا؟ قلت: ربما حسبني محتالاً. والناس في المدن الكبيرة أشد حذراً، وأسوأ خلقاً. لكن، هل وجهي يدل على محتال؟ الجواب في الحادث الثاني مباشرة.


فبعد دقائق من المشي باتجاه الهدف حدث ما يأتي: 
إسكافيان تركيان كانا جالسين على الناصية، رمقاني من بعيد، فاستعدا للقيام بحركتهما المعتادة في اصطياد العربي الغريب و"تقليبه" كما يقول إخواننا المصريون. فبمجرد أن اقتربنا منهما إذا بهما يقفان ويحملان عدتهما كما لو أنهما قد قررا مغادرة المكان، والمضي أمامنا في الشارع. وبحركة مدروسة يسقط أحدهما خلفه أداة خشبية تصدر صوتاً واضحاً على بلاط الشارع، ومع ذلك لا يلتفت إليها.


إنه مطمئن إلى أن نخوتك العربية ستسارع في أخذ ما سقط واللحاق بصاحبه. ولا بد أن يشكرك على هذه الأخلاق الرفيعة ويرد لك الجميل. سيصر بطريقة مريبة على أن يمسح حذاءك مجاناً. وهيهات أن ترفض! ستخبره أن الحذاء لا يصلح للمسح، لأنه من الأحذية الرياضية التي تحتاج لطريقة خاصة في التنظيف. لن يسمع شيئاً مما تقول، وسيسحب قدمك بخفة لتنظيف ما لا ينظف. وخلال هذه العملية سيدور حديث سريع بينكما، يسألك فيه عن بلدك، وهل هو قريب من مكة أم لا، ويخبرك -بعربية ركيكة جداً- إنه من أنقره، وأن ابنه راقد في المستشفى، وأنه بحاجة إلى المال! وعندها تدرك أنك وقعت في يد محتال شريف.


أخرجت محفظتي للبحث عن "فكة" مناسبة، وفتشنا سوياً فيها كأنها محفظة الجميع، فلم نجد سوى خمسين ليرة تركية. وهو مبلغ يمكنك أن تشتري به حذائين في اسطنبول. مد يده إليها مطمئناً قائلاً: هذه تكفي! هنا تدخلت الزوجة كالعادة واستعادت المبلغ، وأعطته عشر ليرات، في وسط سخط الإسكافيين الشديد. وهذه هي المواقف التي تكتشف فيها عظمة المرأة وجبروتها وفائدتها أيضاً! لقد كان وجه الإسكافي مثيراً للريبة، ومع ذلك ذهبت مع خطته إلى منتهاها، بدافع فضول المعرفة، وكان بإمكاني حسم الأمر من البداية.


وأخيراً وصلنا هدفنا ودخلنا المكتبة؛ وهناك وقع الحادث الثالث. دخلت أسرة تركية تبدو عليها مظاهر الرفاه، مكونة من أربعة أفراد، أصغرهم تجاوز سن الثلاثين، وأكبرهم في العقد السابع من العمر. وبدا أنها تفاجأت بوجود مكتبة غير تركية في اسطنبول! سألت الكبرى: ما هذه الكتب؟ أجاب صاحب المكتبة الأريتيري: إنها مكتبة عربية. عربية؟!، إممممم. وهي تشير إلى سطور في الكتاب: هل هذه حروف لاتينية؟ لا، إنها عربية. عربية؟!، إمممم.


سألتُ صاحب المكتبة بعد خروجهم: هل دخلوا هنا بالخطأ. أجاب وهو في حالة صدمة: تصور تسألني هل هذه حروف لاتينية!، وكأنها لا تعرف الحرف اللاتيني، وهو الحرف الذي تكتب به اللغة التركية! معلش يخلق من الشبه أربعين!.


إنها حوادث عادية بالفعل، لكن من قال إن الحوادث العادية لا تقول شيئاً غير عادي. أليس شيئاً غير عادي أن يفقد الإنسان شهامته في الغربة، فيستكثر حتى الرد المؤدب على سؤال الغريب الذي قد يكون محتاجاً للمعلومة. ألم يكن بإمكانه أن يجيب ثم ينهي الحوار بمجرد أن يشعر بالريبة من السائل؟ وذلك الإسكافي وصاحبه ألا يدرك أنه بهذا السلوك يضر بسمعة السياحة في بلده، ويضر بمصلحته من ثم. وتلك الأسرة التركية الكريمة، هل يعقل أن تنفصل عن العالم إلى حد ألا تعرف الحرف اللاتيني، الذي تكتب به لغتها القومية؟ تقول جارتي التركية التي تبدو في العقد الخامس من العمر، إنها لم تخرج من اسطنبول قط ولا تعرف مدينة غيرها.


فكم يا ترى حجم هذه الفئات في المجتمعات الحديثة؟ وإلى أي حد يمكنها إدراك ما يجري في عالم السياسة؟ ثم إلى أي حد يمكننا التعويل على هذه الفئات في نصرة مظلوم أو مقاومة باطل؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.