شعار قسم مدونات

مجازر في عصر الإعلام

blogs الإعلام

يوم انطلقت شرارة الربيع العربي كان من ضمن ما حملته من آمال أن تظفر الشعوب بغاياتها دونما حاجة إلى بذل دماء كثيرة، ولم تكن سرعة انهيار بعض الأنظمة لمحة العزاء الوحيدة حينها، بل كذلك الاعتقاد بأن هناك تطوراً جديداً سيقيّد يد البطش، وهو ما أتاحه عصر الإعلام وسطوة الصورة وسهولة التقاطها وسرعة توثيق الحدث وإيصاله لجمهور عريض بالاستفادة من تعدد وسائطه، فكان الأمل الذي انعقد في يقين أنصار الثورات يبشّر بأنه لم يعد ممكناً أن تستغل أنظمة الاستبداد الظلام والتعتيم لتوغل في القتل وتتفنن في ممارسة إجرامها وترهيبها.

 

في سوريا كان ثمة اطمئنان في بدايات الثورة إلى أن مجازر ثمانينيات القرن الماضي لن تتكرر، لأن تلك جرت في ظل تعتيم إعلامي مطبق لدرجة أن هناك آلافاً ما يزالون مفقودين منذ ذلك الحين، فضلاً عن أن العدد الدقيق والفعلي للضحايا لم يجر إحصاؤه. وفي مصر؛ حيث ميادين القاهرة كانت كأنها مفتوحة على كل العالم، وحيث كان الإعلام المباشر فيها يرصد كل حركة، كان هناك أيضاً اطمئنان كبير، خصوصاً بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، بأن الاعتصام في ميادين رابعة والنهضة وسواهما لا يمكن أن يفرق بالقوة، لأن تفريق المعتصمين وقتلهم على مرأى من العالم سيكون فضيحة لها ما بعدها!

 

لكن المفاجأة كانت أن الرهان على قوة الإعلام وحضوره، كما الرهان على كثير مما كنا نحسبه مسلمات في مرحلة الربيع العربي لم يجد نفعا، وسرعان ما صُعق وعي الجماهير بحقائق أقسى وأمر من كل ما كانت تتوقعه. فلا الإعلام ساهم في الحد من جرائم سوريا حتى مع توثيق كثير من المجازر بالصوت والصورة، ولا احتشاد وسائل إعلام العالم كله منع ذبح وحرق آلاف الأبرياء في ميداني رابعة والنهضة وسط القاهرة، في وضح النهار!

 

بقدر ما ساهم الإعلام في فضح مجازر الطغاة وتسليط الضوء على بقع الدماء والأشلاء المتناثرة في حواضرنا فإنه أورث إحساسنا بلادة غريبة قل أن يحركها شيء

والأمر ذاته يمكن قوله عن العراق؛ عن مآسي الفلوجة وتكريت والموصل، عمن تشردوا منها أو قضوا بالمئات تحت الأنقاض، وعمن أُحرقوا أحياءً بسبب هويتهم المذهبية فقط، ولتغذية أحقاد طائفية بغيضة، بل إن وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان رغم كل إمكاناتها وطاقاتها وتنوعها لم تتمكن من إحصاء أعداد الضحايا الفعلية ولا متابعة كل القضايا المغرقة في بشاعتها، لأننا كنا إزاء مجرمين من طراز خاص، ينازعون لأجل البقاء، ولديهم استعداد لإفناء العالم كله لقاء لحظة إضافية تبقيهم على عروشهم.

 

وفي غزة، لم تكن الصورة تختلف كثيراً عن نظيراتها في حواضر العرب الثائرة، خصوصاً في حربها الأخيرة، فتلك الأحياء الكاملة التي أبيدت في الشجاعية ورفح وسواهما، وتلك الجنائز اليومية التي ضمّت عشرات الأطفال والنساء، وتلك المآذن التي أحرقتها القذائف، كل هذا كان يحاكي الواقع العربي الجديد في مرحلة ما بعد الربيع العربي والردّة عليه، وكلّه كان يبثّ مباشرة على شاشات العالم.

 

الفرق بين الماضي والحاضر في هذا السياق أن إعلام العصر الحديث ضخ عدداً غير منتهٍ من صور القتل والدمار، ووثق لحظات النزاع الأخير لعدد من الضحايا، ورافق تطورات كثير من الفجائع لحظة بلحظة، وأرغمنا على مشاهدة آلاف الأجساد التي لفظتها السجون هياكل عظمية بعد أن اهترأت أرواحها وبليت أجسادها بفعل الجوع أو من شدة التعذيب. ثم كانت النتيجة المأساوية أن اعتدنا تلك المشاهد بعد أن تشبعت ذاكرتنا بها، فما عادت تثير فينا صدمة أو تحفز مشاعرنا للغضب، بل إنّ نَشْرَ أحدنا لصور ضحايا مجزرة في سوريا أو العراق أو سواهما على صفحته الخاصة في مواقع التواصل بات يقابل بذلك السؤال اللامبالي: ما الجديد؟

 

فبقدر ما ساهم الإعلام في فضح مجازر الطغاة وتسليط الضوء على بقع الدماء والأشلاء المتناثرة في حواضرنا فإنه أورث إحساسنا بلادة غريبة قل أن يحركها شيء. ولعله يتعيّن علينا أن نقرّ هنا بأن الصمت إزاء المجازر واعتيادها لم يعد لسان حال المجتمع الدولي وحسب، بل إنه منهج كل البعيدين عن دائرة الألم، ليس فقط بسبب اعتيادهم على الصور النازفة، بل لأن التضامن كقيمة نبيلة بات عملةً نادرة في عصر الانسحاب إلى الذات والاعتناء بسلامتها وحسب، رغم أنه حالة متبادلة، أو هكذا يجب أن يكون.

 

صحيح أنه ليس مطلوباً من الإعلام أن يصنع -وحده- المعجزات، لكن علينا أن نعترف بأن الرهان عليه كان مبالغاً فيه، وأن إخفاق الإعلام في صناعة التغيير كان منبعثاً من إخفاق جوهري في تكوين تصورات صحيحة عن المتطلبات المرهقة لمرحلة التحرر من الطغاة

ورغم أن هناك منابر إعلامية ظلت متمسكة برسالتها الأخلاقية وانحيازها إلى الإنسان وحاجاته إلى الكرامة والحرية، فقد أخفق الإعلام عموما، بحضوره الكثيف وسطوته الواسعة في إرغام طاغية على التراجع عن نهجه الدموي أو التخفيف منه، إنْ بدافع الحياء أو الخوف من الفضيحة أو مراعاة لصورته في أذهان الناس والمجتمع الدولي، فقد كانت حقيقة المجرمين من الطغاة أكثر إدهاشاً من كل الرهانات على بقية خشيتهم من الإعلام أو من افتضاح أفعالهم، وكان يبدو أن مسيرة الشعوب العربية مع التضحيات والدماء ما تزال طويلة وشاقة إن شاءت بلوغ عتبات التحرر الفعلي، لأن حكامها على درجة مفزعة من الانحطاط، والإجرام.

 

صحيح أنه ليس مطلوباً من الإعلام أن يصنع -وحده- المعجزات، لكن علينا أن نعترف بأن الرهان عليه كان مبالغاً فيه، وأن إخفاق الإعلام في صناعة التغيير كان منبعثاً من إخفاق جوهري في تكوين تصورات صحيحة عن المتطلبات المرهقة لمرحلة التحرر من الطغاة وإهالة التراب على عهد القمع والاستبداد في عالمنا العربي، وهي متطلبات أعظم من التصورات المحدودة حولها، ومداها أطول من إمكانية حسم المعركة في أيام أو حتى سنوات معدودات.

 

هذا الجدار العالي من العبودية لم تكن أساساته منغرسة في عروش الطغاة وأسوارهم المنيعة وحسب، بل إن له لبناتٍ في العقول والأفئدة، وفي الأفكار والتصورات النمطية أو السطحية، بل وفي كثير من المناهج التي تبنيناها نحن؛ أي الشعوب المتطلعة للانعتاق، والتائهة عن دربه الأجدى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.