شعار قسم مدونات

الصين والشأن العربي

blogs - china arab

عندما بدأت العلاقات الصينية العربية بشكل رسمي في منتصف القرن العشرين، كانت الدول العربية في طور البناء بعد حروب أو استعمار، وكانت الصين قد خرجت للتوِّ من الثورة الثقافية منهكةً تريد التركيز على لملمة الجراح الداخلية وبناء علاقات دولية مع العالم، خصوصا بعد أن خرجت الصين تقريبا من معسكر الاتحاد السوفيتي.

 

من دراستي في الصين وجدت أن الصينيين يكنّون عظيم الاحترام للثقافة العربية، ووجدت الكثيرين منهم شغوفين بتعلم اللغة العربية وثقافتها. كذلك ينظر الشعب الصيني للعرب من منظور حضاري وإنساني

لم تختر الصين الدول العربية بشكل اعتباطي، فبكّين تعرف تماما القواسم المشتركة بين العرب والصينيين، منها أن الأمّتين عانتا من الاستعمار من الدول الأوروبية – تسمِّي الصين الاستعمار بالإمبريالية – وكلا الأمتين لهما تاريخ قديم وطويل ومشرِّف في بالتجارة والاقتصاد والتعاون في مجالات كثيرة تشمل السياسة والعسكرية وحتى الزراعة.

مع بدايات الألفية، أصبحت الصين تنظر للمنطقة العربية – والشرق الأوسط عموما – من منظور سياسي، إذ أن الموارد الطبيعية الهائلة في المنطقة جعلت بكّين تحاول البحث عن نفوذ سياسي أعمق للحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وهذا النفوذ قد ينافس النفوذ الأمريكي في المنطقة ولا يشكل تهديدا له بالضرورة.

 

لما بدأت سلسلة الثورات العربية، أصبحت الصين تنظر باهتمام أكثر للمنطقة، وبدأت تصريحات بكين تدعو للحوار والتهدئة والحلول السلمية. لكن بكين لم تتجرأ – ولا تريد الدخول – في مشاكل الشرق الأوسط وتعقيداته.

 

من الجانب الآخر، لم تستثمر الدول العربية تلك القواسم المشتركة المهمة بين الأمتين العربية والصينية، إذ طالما كانت الصين تقف في صف العرب في قضايا تاريخية. ففي فترات تاريخية كانت بكّين تدعم منظمة التحرير الفلسطينية بأشكال مختلفة، واشترت من مصر محصول القطن بالرغم من عدم حاجة بكّين له لدعم الاقتصاد المصري، وكذلك التاريخ الطويل من التعاون بين الصين والسودان، وهي العلاقة الأقدم بين الصين وأي دولة عربية أخرى.

 

إن استثمار الدول العربية في العلاقات التاريخية مع الأمة الصينية يحتاج الكثير من العمل، فلا يصلح تجاهل كل ذلك التاريخ العظيم والمشرف بين العرب والصينيين، بل نحن الآن أحوج ما نكون لحلفاء أقوياء نشترك معهم في تعاون حضاري راقٍ، إذ أن أوروبا وأمريكا لا تقيمان وزنا للدول العربية ولا يهمهما مستقبل المنطقة العربية إطلاقا.

 

من دراستي في الصين وجدت أن الصينيين يكنّون عظيم الاحترام للثقافة العربية، ووجدت الكثيرين منهم شغوفين بتعلم اللغة العربية وثقافتها. كذلك ينظر الشعب الصيني للعرب من منظور حضاري وإنساني، إذ يعرف كثير منهم مساهمات العرب في الازدهار الكبير لطريق الحرير، وكيف أن بغداد كانت محطة تجارية مهمة للسفن الصينية القادمة عبر الخليج العربي. لكنهم لا يعرفون كثيرا عن خلفيات الاحتلال الصهيوني لفلسطين، أو العدوان الأمريكي الغاشم على العراق.

 

كل هذه القضايا تمثل أرضية خصبة لتعاون طويل الأمد بين العرب والصينيين، إذ يجب علينا أولا أن نبيِّن للصينيين الخلفية التاريخية للصراع في المنطقة، ولا أقصد بذلك أن نجرَّ الصين لمستنقع الحرب والقتل، ولكن لنضمن أن مواقف الصين من قضايانا مبنية على فهم صحيح، ثم يكون التحالف قويا.

 

لم تكن الأمة العربية يوما فقيرة بمكوناتها الثقافية، لكنها فقيرة فيما يتعلق بالاستفادة من هذا الثراء الثقافي الذي تحويه أمتنا وتقديمه للعالم عموما والصين بشكل خاص.

ما تفعله بكّين الآن من وقوف مع روسيا في مأساة سوريا لا يعدو أن يكون تقليدا تاريخيا بين الدولتين، إذ أن الصين كانت دائما في صف روسيا – والاتحاد السوفيتي سابقا منذ عهد ستالين – لكنها لا ترى منفعة في التدخل العسكري من أي من الأطراف.

 

أعتقد من فهمي المتواضع أننا لو استثمرنا بشكل جدي في كل القواسم المشتركة بيننا وبين الصين لكان لنا شأن آخر، لكن الواقع الحزين يقول إننا نعتمد على الصين بشكل كبير جدا في التجارة، والميزان التجاري بين الدول العربية والصين يرجح كفة بكّين. نحتاج في هذه المرحلة مراكز بحوث ودراسات متخصصة في العلاقات العربية الصينية، وأن نستثمر في تعليم جزء من الشباب والشابات الواعدين اللغة الصينية وثقافتها، فالصين وثقافتها موضوع مثير جدا للاهتمام وفيه الكثير من التشويق.

 

نحتاج أيضا لتعديل كفة الموازين التجارية بيننا وبين الصين، حتى تكون العلاقة معهم علاقة الأنداد وليس علاقة صاحب الحاجة بالغني. قد تكون مبادرة الرئيس الصيني "شي جين بينج" (الحزام والطريق) فرصة ذهبية لنا كدول عربية للمساهمة بشكل جاد في بناء تحالف أقوى مع الصين والاستفادة من المبالغ الضخمة التي تستثمرها الصين في هذه المبادرة.

 

لم تكن الأمة العربية يوما فقيرة بمكوناتها الثقافية، لكنها فقيرة فيما يتعلق بالاستفادة من هذا الثراء الثقافي الذي تحويه أمتنا وتقديمه للعالم عموما والصين بشكل خاص. وفي النهاية، لا زلت أؤمن أن هناك كنوزاً هائلةً من الجوانب المشرقة في حضارتنا يمكن تقديمها للعالم ونبني عليها لكسب حلفاء أكثر يقفون جانبنا في وقت المحن. والله المستعان وعليه التكلان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.