شعار قسم مدونات

خَطاطِيف الرَّحِيل

blogs- الرحيل
هذا الليلُ الخادعُ ليسَ بِهادئٍ كما يُوحي الأُفْقُ، قَلبي يَتوَارَى ولا يَكادُ يُرَى، خَلفَ الضَّبابِ الكَثيفِ الذي خَلَّفَتْهُ زَحْمَةُ النفُوسِ التي اخْتَلَطَتْ بِهِ، وَسَارَتْ بَعِيدا، أَينَ سَارَت يا تُرَى؟

بِالكَادِ أَرَى شُعَاعًا مِن نُورِ قَلْبِي يَبْلُغُ مُدَّ بَصَرِ أطيافِهمُ المُتَمايِلةِ البَعيدةِ، عَلَّقْتُ لافِتَةً عَلَى هَذا الشٌعاعِ تَوْفِيرًا لِوَقْتِ مَن يَأتِ مِنْ بَعدِهِم، أَنْ يَا هَذَا سِرْ، إِنْ كُنتَ تَسير، فَمَنَارَةٌ هَذَا القَلبِ المَهْجُورَةِ لَمْ يَعُدْ يَكْفِيهَا الضِّياءُ التي تَمْلِكهُ لِتُنيرَ لِأحَدٍ في تِلكَ العَتْمَة.

صَدري، سَاحَةُ اعْترَاكٍ مَفتوحَةٌ لا تَهْدَأ، حتى حين أنام، تَمُرُّ أطيافً الرَّاحلينَ عَبْرَ الضُلوعِ إلى القلب دُونَ حَاجَةٍ لتَأشيرةِ مُرورْ، فتتحولُ الضلوعُ إلى خَطاطِيف تُحاولُ الإمساكَ بِهم وهيهات لها أن تبلغهم. تستحيلُ الخطاطيفُ سكاكينًا تُقَطِّعُ في نِياطِ القَلبِ بِمهارةِ الطٌّهاة، دُونَ أن ينزف. ولا يكادُ الجرحُ يلتئمُ حتى تُعاودَ السكاكينُ الكَرَّة بِمُعاودةِ الطيفِ المرورَ، ويكأنه يَعِدُني، ويُمَنِّينِي ويَغِيظُني، ويكأني غافلٌ رغم أنَّي في كمالِ الوَعي وتَمَامُه.


لم يعد قلبك ينفع للفرح العميق، بالطبع ستفرح أفراحا عابرة، لكن الحزن، الحزن يأبى إلا الوفاء له، فليذق قلبك عاقبة ما صنع، بأن يضرب الحزن عليه وشاحا أسودا سميكا، يحول دون بلوغ الفرح إلى حبة القلب من قلبك.

يَشتَدُ العِراكُ ويَشتدُ النُّعاسُ مَعَه، ويَصطَرِعَانِ حتى لا أكادُ أَعلمُ أَيُّهما يَغلِبُ صَاحِبَه، وأَضيعُ في النّومِ بَعدَ أَنْ طَالَ انتِظَارُ مَعْركةٍ حَاميةٍ بِداخِلِي وأنا فيها مُتَفرِّجُ دَفَعَ ثَمنَ المُشاهَدَةِ استسلامًا.

وحينَ أَقومُ مِنَ النّوم، أَشعرُ أَنِّي وَاقِفٌ على قَدَمي فِي مَتَاهَةٍ، أَتَلَفّتُ بَاحثًا فيها عنهُ، في كُلِّ الزَوَايا، غَيرَ أَنِّي حين أَدْرِكُ مَا حَوْلِي؛ أدركُ أنِّي لَمْ أَبْرَحْ سَريريَ بَعْد، وأَنَّ تِلكَ المَتاهةَ بِداخلي، لستُ أنا الذي بداخلِها، ولا أَملِكُ فيها قَرارَ الفِرارِ مِنها، وأنَّه(الطيف)؛ هُوَ وحده من يملك خريطة الحل ومفتاح الوصول.

أقوم من فراشي محاولا استيعاب الموقف، فأستوعب أني خسرت لتوي جزءا مني في رحلة الوصول اليائسة إلى نهاية المتاهة المتجددة، أتدرك معنى أن تقوم من النوم على خسارة؟ أتدرك معنى أن تحاول البلوغ حتى تسأم من شدة التيه والتعب من المحاولة طيلة النهار، ثم تستسلم حين يغالبك النعاس، وفي اليوم التالي تبدأ من جديد، كأن نومك ينقض ما غزلته طيلة نهارك، وأعود أسأل نفسي مم أتحصل على هذه الطاقة التي تُستَنزَف أكثرها في محاولة وصول أعلم أنها فاشلة سلفا.

أحاول فعل أي شئ أتوكأ به على الوجع وأهش به على طيف من رحل، ولكنك أيها الطيف أقوى من كل ما أحاول. وأتسائل في يأس من لا ينتظر الجواب: لماذا يرحل الناس، ويتركون في قلوبنا أطيافهم التي تضاهي مِسْمَارِ جُحَا، غير أن المسمار في حالتنا هذه باق وجُحَا لم يعد يسأل عنه. نعم أطيافهم التي هي لهم باقية فينا، وهم.. أين هم؟

يورث التعلق الشديد خيبة شديدة، خيبة تثير عليك حواسك التي هي منك، وتجعل من حروف الهجاء وسادة لا تستطيع أن تهجو بها من رحل، كلا؛ كما لا تستطيع مدحه بالطبع. كل ما تستطيعه وأنت بصدع قلبك، ومتوسد تلك الحروف التي باتت غير ذات فائدة، أقول، كل ما تستطيعه أن تتنهد وجعك فيطير حرف الهاء من على الوسادة ويرتد إلى صدع قلبك وخزا لطيفا، تعودته، وتعودت أن تبتسم له،مستسلما، لا راضيا.

لم يعد قلبك ينفع للفرح العميق، بالطبع ستفرح أفراحا عابرة، لكن الحزن، الحزن يأبى إلا الوفاء له، فليذق قلبك عاقبة ما صنع، بأن يضرب الحزن عليه وشاحا أسودا سميكا، يحول دون بلوغ الفرح إلى حبة القلب من قلبك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.