شعار قسم مدونات

الدولة الإسلامية في تصور الجماعات الإسلامية

blogs- التيارات الإسلامية

لم تكن فكرة الدولة الإسلامية حاضرة بهذه المركزية الفاقعة في الفكر الإسلامي قبل سقوط السلطنة العثمانية ووقوع أغلب ديار المسلمين تحت نير الاستعمار، ومن هنا بدأت الفكرة تنزلق من أطراف الفكر الإسلامي إلى مركزه تحت ضغط الهزيمة والبحث عن المخرج والحل، وفي واقع سيطرة الجاهلية المطبق على العالم الإسلامي فكان التشخيص الذي وصلت له كثير من الجماعات الإسلامية والتي تشكلت في هذا الظرف التاريخي.

أن الجاهلية قد أطبقت على ديار المسلمين ولا بد من مواجهتها، وأن الجاهلية المنظمة تحتاج لإسلام منظم ومن هنا صار قيام التنظيم واجب، إذ أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وهذا التنظيم من أول مهماته إعادة سلطان الإسلام الغارب ويتم ذلك من خلال وصول التنظيم إلى السلطة والحكم لإقامة الخلافة على منهاج النبوة وإعادة دولة الإسلام من جديد. لكن بالرغم من الدعوة المتكررة لقيام الدولة الإسلامية وشعار الإسلام هو الحل الذي نلحظ حضوره في أدبيات الجماعات الاسلامية مع ذلك تتكرر النكبات والانتكاسات التي يمنى بها العمل الإسلامي في كثير من الساحات والتجارب مع غياب المراجعة والمحاسبة وتتكر الأخطاء من جديد وهذا الأمر قد يشير إلى إحدى أمرين:

*إما أن نموذج الدولة الإسلامية المستقر في خيال هذه الجماعات هو نموذج واضح لكنه مستحيل التطبيق والبناء لما يشترط له من شروط مستحيلة.

*أو لافتقادنا للأسباب التي تنهض بمواجهة تحديات العصر وهذا ما خلص إليه الكاتب المسيحي الفلسطيني وائل حلاق في كتابه الدولة المستحيلة؛ وعزا ذلك إلى مأزق الحداثة الأخلاقي الذي يستحيل أن يتعايش معها الإسلام أو أن يلتقي معها ولو بالفضاء السياسي كنوع من إشعار للمسلمين بالثقة في النفس لإيقاعهم بالفخ وليقتنعوا فعلاً بأن الدولة الإسلامية مستحيلة وذهبت السلفية الجهادية ومنظريها إلى تأييد هذا التصور المبني على النمطية التاريخية للدول الإسلامية وليس على نصوص الوحي المنزل.

لا تزال عموم الجماعات الإسلامية تستصحب الصورة النمطية الكلاسيكية لشكل الدولة الإسلامية وفق النموذج الإمبراطوري في زمن الفتوحات والاتساع كنموذج وحيد لشكل الدولة

وهكذا تبنت السلفية الجهادية هذه الفكرة مدعمة بفلسفة بسيطة وهي أن قيام هذه الدولة ضمن حلقات النظام العالمي المحكمة مع الانكشاف الفضائي للكفر والخضوع لحاكمية الأمم المتحدة والارتباط الاقتصادي بالنظام الربوي العالمي سيسلب من هذه الدولة هويتها الإسلامية ويجعلها تدور في فلك الوظيفية والاحتواء ضمن النظام العالمي، وإن اعتزال هذه الدولة للمنظومة العالمية الكفرية من أجل الحفاظ على هويتها الإسلامية مع شدة حاجاتها لمقومات صمودها وبقائها من هذا العالم وقطع جسور العلاقات مع الدول الأخرى سيدخلها في حصار مطبق وهذا ينفي عنها أنها حقيقة كونها دولة.

فالتواصل مع العالم وفق قواعده التي يفرضها ينفي عنها صفة الإسلامية و مقاطعة هذا العالم والدخول في الحصار الذاتي يعدم الدولة لذلك فالدولة الإسلامية مستحيلة على أي من الاحتماليين، ولم يبق إلا السعي لهدم النظام العالمي برمته كشرط لابد منه لقيام دولة الإسلام التي تساوي في تصور السلفية الجهادية نظاماً عالمياً إسلامياً يفرض هيمنته على العالم، وإما أن مفهوم الدولة لم يتضح تماماً في خيال الحركة الإسلامية الاخرى وفق مقتضيات العصر وتحدياته بسبب ضغط الميراث والتاريخ السياسي الذي يرسم للإسلاميين نموذجاً للدولة وفق شروط التاريخ الإسلامي لا وفق أمكانيات العصر الحديث والواقع المعقد المتغير، وبالرغم من حضور الوعي لدى الجماعات الإسلامية في ضرورة إيجاد وقيام الدولة الإسلامية هناك غياب كامل للوعي في تركيبة هذه الدولة ومصدر شرعيتها وشروط بقائها وفلسفتها السياسية وأهدافها ومقاصدها.. نعم تعاني الجماعات الإسلامية من قصور الخيال في تصور شكل الدولة وفلسفتها.

كما يقول نابليون أغلب مؤسساتنا مصابة بقصور الخيال ولولا الخيال لكان الإنسان كالحيوان ويكتسب التصور والخيال ضرورته من دوره في استجلاء الحكم على الأشياء وبرأيي أن خلل التصور عند الحركة الإسلامية للدولة الإسلامية يشمل كل من (جزئية الدولة) و(جزئية الإسلامية) فلا أركان الدولة وشروط قيامها مكتملة ولا معايير الحكم بإسلاميتها واضحة بينة.

في جزئية الدولة

لا تزال عموم الجماعات الإسلامية تستصحب الصورة النمطية الكلاسيكية لشكل الدولة الإسلامية وفق النموذج الإمبراطوري في زمن الفتوحات والاتساع كنموذج وحيد لشكل الدولة؛ حيث كان المنطق السائد في العلاقة بين الدول هو حرب الكل على الكل إلا في فترات هدنٍ محدودة أوفي دخول الدول الصغيرة في حماية الدولة العظمى مقابل دفع الجزية والولاء وحيث كانت الدولة تأخذ شرعيتها من قدرتها على شن الحروب وحماية ثغورها.

تفتقد الجماعة الإسلامية إلى مقاييس معيارية لتحديد هوية الدولة ومتى تكون هذه الدولة إسلامية هل تكون إسلامية عندما تحكم بالإسلام أم بمجرد أن يحكمها المسلمون هل تكون إسلامية عندما يكون شعبها مسلم أم بمجرد أن يكون حكامها مسلمون

بينما أصبحت الدولة العصرية تأخذ شرعية وجودها من التعاقد السياسي مع مكوناتها الداخلية وخارجياً من الاعتراف الدولي بولادة هذه الدولة ليستمر وجودها وبقاؤها، وإلا فالبديل هو الصراع حتى الفناء مع العالم والحصار في مناطق الفوضى وعندما تولد هذه الدولة فإنها ترتبط بشبكة من المنظومة الدولية السياسية والاقتصادية التي تمنعها من التوسع بحيث لا تستطيع الدولة أن تعيش خارج العالم أو بحصار مطبق تحت ضرورة المصالح المشتركة وحاجة الكل للكل.

وفي الحقيقة أننا عندما نتتبع شكل الدولة الإسلامية في الحقب التاريخية المختلفة لا نقف على شكل واحد للدولة إنما على أشكال متعددة كان لمؤثرات الداخل والخارج والظروف الحضارية من قوة وضعف وتمكين ونقص في التمكين دور أساسي في رسم ملامحها ومنحها شرعية السلطة.

وفي جزئية الإسلامية
تفتقد الجماعة الإسلامية إلى مقاييس معيارية لتحديد هوية الدولة ومتى تكون هذه الدولة إسلامية هل تكون إسلامية عندما تحكم بالإسلام أم بمجرد أن يحكمها المسلمون هل تكون إسلامية عندما يكون شعبها مسلم، أم بمجرد أن يكون حكامها مسلمون هل تكون إسلامية أم عندما تقيم الشرائع أم بمجرد أن تسمح بحرية الشعائر وهل هذه المعايير ثابتة في حالة القدرة وانعدامها أم متغيرة بتغيراتها.

والحقيقة أن ما وقع من تميز بين دار الكفر ودار الإسلام في التاريخ الإسلامي هو معيار إجهادي محض للفقهاء فيه أكثر من عشرة أقوال حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية اجتهد في تسمية الدار المركبة التي ليست دار كفر وليست دار إسلام وخرج بذلك عن القسمة الاجتهادية التي كان عليها الفقهاء.

الجماعات الإسلامية تعيش خارج روح عصرها وتتلقى كل شروره فبينما العالم يعيش مرحلة ما بعد الدولة، ويسعى لعولمة ثقافته السياسية لا تزال الجماعات تراوح في مرحلة ما قبل الدولة وهي تحمل على كاهلها عبء الموروث والتاريخ الذي يضفي على تصورها قيوداً وآصاراً لم تأت بها الشريعة، ولم يكلفها بها الدين الأمر الذي يحتاج من الجماعات الإسلامية إعادة النظر والاجتهاد في تصور ملامح الدولة الحديثة التي تحولت في عمومها إلى دول مركبة تركيباً معقداً لم تعد ثنائية دار الكفر والإسلامية كافية في تحديد ماهيتها الثقافية في هذا العصر. إن عمق الصراع يحتم علينا ألا نحصر جهدنا في دائرة اكتساب الدولة فحسب ولا أن نحصر أنفسنا في تصورنا الموروث عن الدولة الإسلامية الذي رسمته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.