شعار قسم مدونات

السياسة التحريرية.. قاتل لا يحاسبه أحد

blogs- الصحافة
ليست الرصاصة وحدها هي التي تقتل، والغارات لا تقع دائمًا بالطائرات؛ والمدافع ليست وحدها القادرة على القصف؛ ثمة وسائل كثيرة ومثيرة للقصف، وللقتل أيضًا، على رأسها القتل بالكلمة. نعم الكلمة التي يفترض أن تكون وسيلة للحياة والتعايش والسلام.

"السلام عليكم"، تحية الإسلام، كلمتان تهزمان جيوشًا بأسرها إن هما وقرتا في قلب العالم وصدقهما العمل. وفي المسيحية "الله محبة"، كلمتان تشعان بالحياة أيضًا، لكن هيهات؛ فقد حلَّت البندقية محل اللسان، واحتل البارود مكان الحروف، فاشتعل العالم ولا يبدو أنه سينطفئ قريبًا.

السلام يبدأ بكلمة، والحرب أيضًا؛ فقديمًا قيل إن الحرب أولها كلام. والفتنة – التي هي مجرد كلام أيضًا- أشد من القتل، كما قال خالق الكون الذي جعل الحرب والسلم طريقين متوازيين وترك لنا حرية السير في أيهما.

وحاليًا، وكما تطورت آلة القتل المادية (السلاح)، فإن آلة الحرب المعنوية (الكلام) قد تطورت على نفس النحو إن لم يكن أكثر. وذروة هذا التطور في القتل بالأسلحة المعنوية تتجلى فيما يعرف بـ"السياسة التحريرية"، هذا القاتل غير المرئي الذي يجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه دون أن يحاسبه أحد.

العاملون بالصحافة يعرفون أن السياسة التحريرية هي الخطة الحربية التي يقوم على تنفيذها جيش من الكَتبَة الذين يعرفون أن حرفًا واحدًا كفيل بتحريف حقيقة تاريخية عن موضعها أو حرف شعب بأسره عن مساره، بل ويعرفون أن كلمة واحدة قد تغيِّر مستقبل أمَّة كاملة وتأخذها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

السياسة التحريرية تمارس نوعًا من القتل لا تمارسه الطائرات الـ"إف 16″، ولا تستطيع ممارسته. قتل بلا دم. قتل يخلف ملايين القتلى الذين يسيرون على قدمين ويأكلون ويشربون، كالأنعام.

"ثورة" و"انقلاب"، كلمتان سهلتان في كتابتهما لكنهما قاسيتان في آثرهما التاريخي على الشعوب والأنظمة؛ فالأولى هي ذلك الخيط الذي يسحب الشعوب نحو حياتها، والثانية هي ذلك الحبل الذي يجرهم نحو حتفهم جرًّا. إن اختلط المعنيان على العامة حادوا عن صوابهم.

قِس على ما سبق كلمات كثيرة من قبيل "إرهابيون" في مواجهة "ثوار"، و"قوات" في مواجهة "ميليشيا"، وهكذا. ولكم في مصر وسوريا أسوة حسنة.

السياسة التحريرية هي التي تحدد استخدام هذه الكلمات ومواضعها والطرف الذي يجب إضفاؤها عليه، وفق إرادة من يموِّل؛ فمن يدفع يوجِّه، هذه قاعدة راسخة في الإعلام. لذا، فإن الثوار في وسيلة إعلام ما هم أنفسهم الإرهابيون في أخرى، والجيش في واحدة هو الميليشيا في أخرى، ومنازل المدنيين كذلك هي مواقع عسكرية في أخرى.

هذه السياسة التحريرية مسؤولة عن قتل مئات الآلاف من الأبرياء وتضييع دمائهم هدرًا، وهي نفسها المسؤولة عن إلصاق تهمة القتل بطرف وغسل آخر منها. السياسة التحريرية هي التي تقنع رجلًا بسيطًا محدود التفكير، لا يستطيع قراءة اسمه بأن بلده يحارب الإرهاب، وهي نفسها التي تجعل نفس الرجل يعتقد أن نظامه الحاكم يقتل الثوار الأبرياء.

السياسة التحريرية هي التي تملي على العوام قراءتها الخاصة للأحداث، ومن ثم للتاريخ، وهي التي تحرض هذا على الهتاف وهي نفسها التي تدفعه للخنوع. السياسة التحريرية هي التي تحشد الناس في الشوارع طلبًا للحياة والعمار وهي التي تبقيهم في بيوتهم حذر الموت والدمار.

ومن خلف هذه السياسة تقف دول وجيوش مجيَّشة من الجنود (الصحفيون) الذين لا يملكون حق التدخل في خطة الحرب (السياسة التحريرية)، بزعم أنهم ينفذون الأوامر. هؤلاء في حقيقة الأمر شأنهم شأن الجندي الذي يقتل يطلق الرصاص تنفيذًا للأوامر أيضًا. لا فرق بين من يطلق الرصاص بزعم أنه عبد للمأمور وبين من يطلق القلم بزعم أنه ينفذ السياسة التحريرية، والحق أن الثاني أكثر قبحًا وأشد ذنبًا وأكثر استحقاقًا للعقاب؛ فالأول إن خالف سياحكم عسكريًا ليخسر حياته أو حريته على أقل تقدير، أما الثاني إن خالف فسيفصل من العمل ولن يفقد إلا راتبه. فهل الراتب أغلى من الحياة أو الحرية؟

هل يُغفر للصحفي أنه يخوض معارك مسلَّحة بامتياز لمجرد أنه لم يحمل سلاحًا في يده؟ هل يغفر للصحفي الذي يعطِّل العقول عن العمل ويحرف الأمم عن مسارها الصحيح أنه مجرد "موظف" في مؤسسة؟ هل يعقل أن يقال بعد ذلك إن الصحافة ليست جريمة؟ صحيح أن الصحافة ليست جريمة لكن بعض الصحفيين مجرمون.

لن تستطيع محاكمة السياسة التحريرية التي كانت تجعلها متعطشة لالتهام فكر مخادع، كما كان الملح يدفع البهيمة لشرب الماء بحثًا عن ري كاذب.

صحيح أن بعض وسائل الإعلام تحرِّض الناس على أخذ حقوقهم، لكن أخرى تحرضهم على التفريط فيها، وإن كانت الأولى لا تفعل هذا إلا مع شعوب بعينها.

السياسة التحريرية تمارس نوعًا من القتل لا تمارسه الطائرات الـ"إف 16″، ولا تستطيع ممارسته. قتل بلا دم. قتل يخلف ملايين القتلى الذين يسيرون على قدمين ويأكلون ويشربون، كالأنعام.

النماذج كثيرة لا تحصى، لن أسرد منها واحدًا هنا، سأترك القارئ يعقد المقارنة بنفسه.

فقط سأقول: إن نفس الصحفي الذي كان يكتب بيده "انقلاب 3يوليو/تموز" نزولاً على السياسة التحريرية للمؤسسة التي يعمل بها هو نفسه الذي أصبح يكتب بنفس اليد "ثورة 30 يونيو/حزيران" نزولًا على سياسة مؤسسته التي انتقل لها، والأدهى أنه لم يكن مقتنعًا بأن ما حدث في يوليو/تموز انقلابًا، عندما كان هناك، واليوم هو لا يعتقد أن ما حدث في 30 من يونيو/حزيران ثورة عندما أصبح هنا، ومع ذلك كان ينفذ الأوامر هناك بحذافيرها، ومازال يفعل الأمر نفسه هنا.

"الموضوعية لا وجود لها. هناك سياسة تحريرية". هذا أول درس تعلمته في عالم الصحافة، وهذه الجملة تحديدًا كانت أصدق ما قيل لي، ما دون ذلك من أحاديث عن "المهنية" "الحياد" "عدم تبني الآراء" .. الخ. كلها شعارات يتم تقديمها للعوام كما يقدم البرسيم للحيوان للجائع فيلتهمه حتى لو كان مسمومًا.

عندما يريد التاجر بيع بهيمته فإن أكثر ما يفعله هو أن يقدم لها الطعام المخلوط بالملح لكي يجعلها في حالة عطش دائم، وشرب ماء مستمر، ومن ثم يثقل وزنها وتبدو في السوق ممتلئة الجسم. والحقيقة أنه امتلاء زائف، فلو ذبحتها لوجدت ثلث زونها مجرد خديعة تاجر. وكذلك العقول عندما تتم تغذيتها بسياسة تحريرية ما، فإن الاختبار السياسي سيكشف أن نصف وعيها مزيف، وأنها ليست مؤهلة لتقرير مصيرها على نحو سليم. وآنذاك لن تستطيع محاكمة السياسة التحريرية التي كانت تجعلها متعطشة لالتهام فكر مخادع، كما كان الملح يدفع البهيمة لشرب الماء بحثًا عن ري كاذب.

السياسة التحريرية كالرصاصة، والصحفي كالجندي، كلاهما يقتل (إذا كان في الموضع الخطأ)، ولا يخشى المحاكمة،

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.