شعار قسم مدونات

كيف نقرأ كلماتِ الله؟

blogs - quran

أن تنشأ مُسلِماً يعني أن تكبر وأنتَ ترى مصحفاً يزيّن رفوفَ المكاتِبِ مِن حولك. قد تراهُ في يدِّ جدّك وهو يقرأ منهُ في يومَ الجمعة، أو قد تراهُ مُزَيّناً في علبٍ جميلة ليُهدى في إحدى الزيارات القريبة. وعندما تشتري سيارتك الجديدة ستجدُ مَن يُبادِرُ بإهدائكَ نًسخة مُصحَفٍ؛ لتُبارِكَ بها "مشاويركَ" القادمة. ستذهبُ لتؤدّي واجب العزاء يوماً وسترى نُسخَاً مِنَ الأجزاء القرآنية تُتَداوَل بين أيدي المُعزّين وستجدُ إلى جانبها صوتَ القرآن يعلو. وفي رمضان ستستمع للكثير من آيات القرآن عبر مكبِّرات صوت المساجد، وقد تقف لتصلّي داخلَ هذه المساجد فتجدَ الإمام يبكي، وبعض المصلّين يبكون، وعلّك حينئذٍ تبكي، أو علّك تستغربُ بكاءهُم وأسبابه وتجد نفسك غريباً في مكان كل مَن فيه تأثروا بأمرٍ لم يصل إليكَ مِنهُ شيئاً.

اقرأ آيات الله لتجدَ كرمَ فيض الله عليك. اقرأ آيات الله ولا تكن أمامها أميّاً لا تعرفُ قراءةَ ما يصنعك أو كتابةَ ما يرفعُ شأن خلافتك ووجودك على هذه الأرض. هذه الآياتُ كلمات الله، فلا تفرِّط بها.

ستدخل امتحاناً صعباً يوماً ما، وسيخبركُ الجميع بأن تقرأ شيئاً مِن القرآن. سيوصيكَ بعض أحبابكَ بأن تقرأ سورة "يس" لكلِّ أمرٍ تريد تيسيره، و"الضحى" لتجد ضالتك، والمعوذات قبل أن تنام، و"البقرة" على مدى أربعين يوما، إلى غير ذلك من النصائح واللطائف. وحقيقةً فإنّ القرآن جاءنا لأجل ذلك كله؛ للبركة، للجمال، للحفظ، للشفاء، للتحصين، لتحريك القلوب، ليكون سراجاً وضياءً. لقد جاء القرآن الكريم ليكون المعجزة التي أراد اللهُ بها أن يتعلّم الإنسان كيفَ تًصنَعُ الإنسانية، وكيف تمرُّ الحياة وما دستورها ومنهجها. 

قد تفتحُ القرآن يوماً وأنتَ في ضيقٍ شديد، فتجد الآية تخبرك بأنَ: "سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا" فكأنَّ يداً حانيةً تربِّتُ على كتفيك وروحك. ستقرأ القرآن وأنتَ بعيدٌ عن الله ومذنِب؛ فتجد العتاب رحيماً عليك بأن: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ". ستجدُ نفسكَ مرةً شبيهَ زكريا – عليه السلام – في محرابه يشكو لله أن قد وهنَ العظمُ منه واشتعلَ الرأس شيباً واشتاق للولد والذرية، فتجد روحك تشتكي لله شوقها لأمرٍ آخرٍ تفتقده أنتَ في حياتك. ستخاطبكَ آيات القرآن بكل تفاصيلها، بالرحمة، بالقصص، بالترهيب، بالعبرة، بالإرشاد، بالأحكام، بكل ما يلزمكَ لتعمّرَ هذه الأرض وتبنيها.

 

أن نؤمن بخلود معجزة القرآن يعني أن نؤمن بأنّ القرآن سيبقى قادراً على تغيير النفس البشرية إلى حالٍ أفضل. بأنّ المعجزة الحقيقية لرسول الله – صلى الله عليه وسلّم – بأنّ هذا القرآن استطاع صناعة أفرادٍ أقاموا حضارةً بأكملها، ونقلوا بيئتهم وعقليتهم إلى أخرى مختلفةً تماماً. ولِذا فإن وجدنا يوماً جفاءً ما بيننا وبين هذه المعجزة الخالدة، وإذا أصبحت علاقتنا بكلام الله علاقةً رتيبةً ضعيفة، وإذا حصل وانقطع الوصل بالقرآن ولم يعُد لنا وِردُ قراءةٍ نلزمه، فعلينا أن نعيد حساباتنا بـ: "كيفَ نقرأ القرآن"؟

 

أستغرب ربط القرآن والخشوع بالبكاء فقط. نعم، ستبكي بين آيات القرآن شوقاً، وربما خوفاً، وربّما حباً. لكنكَ ستبتسم حيناً، وستعود بذاكرتك إلى موقفٍ بعيد حيناً آخر؛ إلى صديقٍ قديم. بعضُ الآيات إذا سمِعتَها ربّما تجعلك تحرّك مقود سيارتك وتذهب إلى عملٍ خيريّ لَم تكن تنوي الذهاب إليه. بعضُ الآيات إذا سمعتها غيّرتكَ مِن شخصٍ لا روحَ له في هذه الحياة إلى شخص آخر يحمل من الحماس ما لا يحمله الآخرون.

بعض الآيات إذا أنهيت قراءتها وجدتَ نفسك تخرج لملاقاة أهلك أو أصدقائك وأنتَ في غاية السعادة وصوتكَ فيه من الطمأنينة ما لم يكن قبل ذلك أبداً. في القرآن، ستجدُ ما يُفرِحك، ستجد حكايتك، ستجدُ جواباً لأسئلتك، ستجدُ ما يُبكيك، ستجدُ ما يُطمئنك، ستجدُ ما يؤمّنك، ستجدُ ما يُسجِدُكَ شكراً، ستجدُ ما يغيّر مزاجك، ستجد الكثير.

 

إنّ القرآن هو كلام الله – عز وجل – وكلام الله لا حدّ له ولا إطار، لا ابتداء له ولا انتهاء؛ فلا تجعل لعلاقتك بالقرآن حداً ولا تقبل لهُ بصورةٍ واحدةٍ في حياتك. لا تقرأه وأنت تريد أن تنهي عدداً من الصفحات فحسب، اقرأه بقلبٍ يُريد أن يسمع كلام الله له. رتّل القرآن على مهل، وابحث فيه عمّا يلملم شتات قلبك ويزيد حماسك وإقدامك. اقرأ القرآن وبيدك قلمٌ تشير به على آية تستوقفك.

ضع بجانبك دفتراً تسجّل فيه رقم آية لامست قلبك، أو اكتب الآية نفسها. أمسك هاتفك والتقط صورةً لآية تحبها. عد إلى القرآن حيناً بعد آخر وانظر لتلك الآيات المُشار إليها بأقلامك، واقرأ ما كتبتَ على دفترك، وانظر لما التقطتَ بهاتفك. اتخذ ما يعينك ومَن يساعِدك، اتخذ كتابَ تفسير ترتاح لأسلوبه، أو مجلسَ علمٍ تنهَل مِنه فهماً وقرباً. اتخذ رفيقاً تكلّمه عمّا استوقفك، ويكلِّمك هو عمّا استفاد.

هذه الآيات كلمات الله، تنزّلت عليكَ لتعينكَ على كَبَدِ العمر وصعوبة الحياة، والله – عز وجل – أقرب إليكَ من حبل الوريد؛ فلا تجعل كلماته أبعدَ عنك من ذلك. اقرأ آيات الله لتجدَ كرمَ فيض الله عليك. اقرأ آيات الله ولا تكن أمامها أميّاً لا تعرفُ قراءةَ ما يصنعك أو كتابةَ ما يرفعُ شأن خلافتك ووجودك على هذه الأرض. هذه الآياتُ كلمات الله، فلا تفرِّط بها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.