شعار قسم مدونات

وبالقرآن اهتديت

blogs - quran

ويحدثُ أن تعود بي الذاكرة للماضي، تتلو عليَّ قَصصًا من الأمس بمن كنتُ وبما كان، تحدثني عن قصتي مع القرآن: وكعادة أيّ طالبِّ مُتفوِّق في مدرسته، يريد له والداه أن يزداد تفوُّقًا، فالأمهات خاصةً يحببن المباهاة بأبنائهنّ، والآباء يعتبرون ذلك فخرًا وإنجازًا لهم، وكلاهما على استعداد أن يقدِّم المنحَ والجوائز مقابل ذلك اللقب في بيتهما؛ "حَافظٌ لكتاب الله"، وكذلك فعل أبواي، والتحقتُ بدورةِ تحفيظ لكتاب الله، كانت حديثة النشأة في قريتنا الصغيرة، وبتشجيع والديَّ فزتُ بأول مسابقة لي، فعقدتُّ العزمَ أن أُتمّ حفظه، ووصلتُ الليل بالنهار، وبعد سنةٍ كاملة من الجدِّ والاجتهاد، بفضل الله أتممتُ حفظَه، وحصلتُ على إجازةٍ في تجويده وحفظه، في سنِّ السادسة عشرة تمّ لي ذلك الأمر، حققتُ حُلمًا لطالما راودني.

وفي أحد الأيام حزمتُ حقائبي استعدادًا لسفرٍ طويل، إلى حيثُ لا أدري من المكان إلا اسمَه، كنتُ قدْ جمعتُ بعضًا من ذكرياتي وكتبي ودموعِ أمِّي الحزينة، ومُصحف الجيب الذي كان جائزة إحدى المسابقات، ذلك الذي لطالما أنستُ به، إلى أن باعدت بيني وبينه خطوات زيَّنها الشيطان، إلى أنْ فرَّقنا الهوى، وما لبث قلبي حتى هوى، وفي سكرات لذة زائفة وقع أسيرًا، أغواه البهرج، وسقته من مآقيها ذنوبٌ وآثام لذةٌ للشاربين، فضلَّ الطريق، وغشيه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ ظلماتٌ بعضها فوق بعض، حياةٌ غلب عليها الزيف، فيها يتسابق الناس للشهوات، لا تكاد تسمعُ فيها ذكر اسم الله -إلا من قليلٍ كنتُ قد جهلتُ أو تجاهلتُ ما يثبتهم-، حَفَلات في آخر الليل، فيها اختلاط سافر، رقصٌ ومجونٌ وشربٌ للخمر، كان لتلك البيئة -رغم قلة اندماجي معها- تأثير على تمسكي بقرآني الذي حفظت وتعلمت أحكامه، لم تُغْوني فاحشة أو معصية كبرى ولكنها آذت قلبي كثيرًا، قلبٌ امتلأ بالقرآن وحده.

في كل يوم تتخلى عن شيءٍ من إيمانك من وقارك، عن قيام ليلك، تفقد خشوعك في الصلاة، وإقبالك على النوافل، لذة الخلوة بالله عز وجلّ، ولا تكاد ترى مصحف الجيب ولا ترطب لسانك بقراءة صفحاته، ذلك الصاحب والرفيق

والآن يخالطه ما لا يرضي الله، لَمَمٌ أخذت بي في طريق وعرة ملأى بحصى صغيرة، أو ذنوب صغيرة، نزعت عني ثوب الوقار والالتزام شيئًا فشيئًا، قد تظن للحظة أنك إن نجوتَ من كبائرها، فلن تغلبك صغائرها، ولكنني تعلمتُ أن القلب كالوعاء ما خالطه شيءٌ إلا وأزاح منه بذات القدر، فلا يغرنَّك ذنبٌ صغير، فإنه قد بدأ ينخر في تقواك.

أن تدعوك فتاةٌ ذاتُ حسن وجمال للجلوس معها والحديث أمرٌ يهزُّ الإيمان ويزلزل التقوى، فها هي حدود قلبك اخترقت، وخطوط دفاعك الأولى سقطت أمام جمال عينيها، وأهدابها الحادة كسيوف غُرست في صدرك، أردتك قتيلًا مستسلمًا لها، أو هكذا يزيِّن لك الشيطان، حديثٌ لبق، الغرضُ منه التعارف وتبادل الثقافات، هكذا يكون العنوان برَّاقًا ومريحًا للنفس.

بدأتَ تتنازلُ شيئًا فشيئًا، تنهي حديثك وتعود لإقامتك حيث حان موعد صلاة الظهر لتصلي، وعلى غير عادتك لم تسبغ الوضوء، ولم تصلِّ ركعتي النافلة كعادتك، وفي صلاتك لاحتْ صورتها أمامك، والشيطان بجانبك يحثُّك على الإسراع للعودة إليها، ولكن من عادتك أن تراجع خمسَ صفحاتٍ بعد كل صلاة مفروضة، هل تؤجلها؟ لا بأس بذلك سأؤجلها لقيام الليل، وتعود مسرعًا لتجدها بانتظارك لم تتزحزح من مكانها، فيخطر في بالك لِم لَم تصلي هي؟

تتناسى وتمضي إليها، وفي كل يوم تتخلى عن شيءٍ من إيمانك من وقارك، عن قيام ليلك، تفقد خشوعك في الصلاة، وإقبالك على النوافل، لذة الخلوة بالله عز وجلّ، ولا تكاد ترى مصحف الجيب ولا ترطب لسانك بقراءة صفحاته، ذلك الصاحب والرفيق، غرَّتك حياة الانفتاح غير المحدود، حرية زائفة، أعلمُ أنَّ القلب ضعيف، وأن النفس أمارة بالسوء، وأن الفؤاد كثير التمني، ولكنك قد نسيت، من حافظ لكتاب الله، لحافظ لبعضه أو شيءٍ من بعضه، ألا يكفيك هذا لتعلم أنك ضللتَ الطريق؟ بلى يكفي! نعم؛ ضللتُ الطريق.

ولكن لا بُدَّ للقلب أن يهتدي، ولا بُدَّ لقيد المعصية أن ينكسر، وما أعظم التوبة إلى الله، وما أجمل الإنابة إليه، وما أجمل القرآن صاحبًا أمينًا على قلبك، فحين تظن أنَّ مصائبك كثرت عليك، وأنك بلغت منزلًا تمنيتَ فيه الموت لثقل الابتلاء، فإذا بنسائم من سورة مريم وكأنها تتنزل: (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) لتذكرك بثقل الحِمل وعِظم البلاء، وبأن الجسد واهنٌ ضعيف، فحتى مريم، تلك التي أطعمها الله وأشربها ورزقها من عنده لم تستطع تحملًا، ولكنُّه رغم ذلك ما أشقاك إلا ليسعدك وما أخذ منك إلا ليعطيك، وما أكثرها رسائل التطمين تتلو انكسار مريم وضعفها:

(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي)
(قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)
(تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)
(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا)
وأما خاتمة البشرى فكانت: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي)
 

كيف يشقى من كان القرآن أنيس وحدته، وجليس خلواته، وصاحبه في ضيقه، وطبيبه في مرضه، ورفيقه في سفره وترحاله، به يتعطر اللسان، وتنقى الروح، ويرتاح الجسد، كماء الجنة لا يروي كلما شربتَ منه ازددت عطشًا

وهل أجملُ من أن يبرَّ الله بك! فكان لها عيسى النبي الذي نطق في المهد وخلَّد ذكرها بالخير إلى يوم نبعث، فلا تدري بما يبرك الله يا صاحِ! استبشر فإن الله يحبك! ثم أعقبَها لطائفُ من سورة يوسف لتسقيَك من معين التجربة وتواسيَك في حزنك: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ) فكم راودتك ذنوب عن نفسك وأغلقت عليكَ أبوابها وقالت لك أنا نعيمك! وأيُّ نعيمٍ هذا في معصية الله، (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)، هنا تتذكر موقفًا عظيمًا في بلاغة الإجابة! وهل يُقابل حسنٌ بسوء؟! وهل تستوي الطاعة والمعصية؟! 

في ذلك الوقت تذكرتُ نصًّا قرأته للإمام محمد الغزالي جاء فيه: "لو أن شخصا نظر إلى ماضيه فوجده مثقلا بالآلام ـ كما وقع ليوسف عليه السلام ـ لضاقت به الأرض إلا أن يوسف الصديق بقي متألق اليقين وراء جدران السجن يذكر بالله من جهلوه، ويبصر بفضله من جحدوه وذلك شأن أولي الفضل من الناس، لا يفقدون صفاء دينهم إن فقدوا صفاء دنياهم، ولا يهونون أمام أنفسهم لنكبة حلّت بهم."

وكيف يشقى من كان القرآن أنيس وحدته، وجليس خلواته، وصاحبه في ضيقه، وطبيبه في مرضه، ورفيقه في سفره وترحاله، به يتعطر اللسان، وتنقى الروح، ويرتاح الجسد، كماء الجنة لا يروي كلما شربتَ منه ازددت عطشًا، فيا قارئ القرآن رتل وارتق واصدح بالآيات لترقى في السماء، وأبحر وغص في أعماقه لتجمع منه دررًا ولآلئ، ففي كل سورة فيه عبرة، وفي كل حرف فيه أجرٌ وثواب، وفي كل آية فيه ما يريح القلب والعقل والوجدان، فاحفر فيها قول الله عز وجلّ: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فإياك أن تبتئس لبعدك عنه فإنك أينما وليتَ وجهك باحثًا عنه فإنه قريب سهل الوصول، ضمانةٌ من الله عز وجلّ ودعوة لتجديد الأمل، لتجديد الحياة، حياة طاب معناها في رحاب القرآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.