شعار قسم مدونات

دفاعا عن استحالة "الدولة الإسلامية" (2)

blogs - الصحوة الإسلامية

انتهيتُ في مقالي السابق إلى مركزية التفريق بين "الدولة الحديثة" كمنتَج غربي و"الحكم الإسلامي" كنموذج للحكم الأخلاقي من خلال شريعة ما قبل العصر الحديث، وهي -في الجوهر- قانون أخلاقيّ متعارَف عليه ومتفاعل مع الأعراف المحلية حتى غدا القوةَ العليا قانونيًّا وأخلاقيًّا وقَبِلته المجتمعات تاريخيًّا كنظام مركزيّ. ومن هنا كان كتاب وائل حلاق عن "الدولة المستحيلة" مقالاً في الفكر الأخلاقيّ أكثر من كونه تعليقًا على النواحي السياسية أو القانونية.

 

ولكن المشكلة اليوم تَتَمثل -عند الحديث عن "الدولة"- في الخلط بين أشكالها وأنماطها المختلفة: الحديثة وما قبل الحديثة، ثم محاولة تسكين التعبير المُستَحدَث "الدولة الإسلامية" في واحدٍ من الأمرين، وسبق أن أوضحت كيف أن هذا التعبير هو تعبير هجينٌ يخلط بين نظام الخلافة ونظرية الدولة الحديثة ولذلك يفتقر إلى الاتساق ويحتوي على العديد من التناقضات التي سأوضحها في مقالي اللاحق.

 

ولكن مناقشات الرافضين لأطروحة "الدولة المستحيلة" استبطنت أن "الدولة الحديثة" هي ذِروة التطور والنموذج الأكمل والنهائي الذي لا غنى عنه، ولذلك رأت أن نَفي هذه الدولة بعينها عن الإسلام يُعتَبر انتقاصًا منه؛ لأنها تطابق بين رؤاها والدين نفسه، ولذلك رأينا بعضهم يربط بين كتاب حلاق وكتاب علي عبد الرازق متوهِّمًا أنهما ينفيان "الصيغة الحديثة" عن الإسلام ويُجردانه من أخص خصائصه وهي "الدولة الحديثة" رغم الفارق الكبير بين الرجلين!

 

إن سردية "الإصلاح" الاستشراقية التي ترهن الشريعة إلى رواية تاريخية تمثل حقبة الإصلاح ذروتَها هي أبعد من مجرد نَقل ما قبل الحديث إلى الحديث، فهي تُفصح عن موقف سياسي وأيديولوجي تجاه الشريعة ومجتمعاتها

كما رأينا آخر يستدعي خلفية حلاق المسيحية مُتوَهّمًا أنه يُجرد الإسلام من أبعاده السياسية متأثرًا بالتصورات المسيحية (لا ندري لماذا المسيحية وليس العلمانية مثلاً؟)، في تصور سطحي عن أطروحة حلاق المتخصص أصلاً في الجانب الفقهي الإسلامي وتاريخ الشريعة والذي يدافع عن تلاحم الفقهي والأخلاقي في "الشريعة"، والذي دافع بصلابة عن استنقاذ مفهوم الشريعة من السرديات الاستشراقية عبر مساءلته للمفاهيم المركزية بالاستناد إلى نيتشه الذي قال: "كل كلمة هي انحياز"، ولذلك دافع حلاق ودافعتُ في دراساتي عن خطيئة ترجمة الشريعة إلى القانون الإسلامي؛ لأن القانون هو إنجاز حداثي صِرف لا يتلاءم مع مفهوم الشريعة، ودرّستُ طلابي كيف أنه تم اختزال الشريعة في الفقه، ثم كيف تم اختزال الفقه في الجانب القانوني منه تحت تأثيرات الحداثة.

 

وبناء على هذا ساءلَ حلاق مفاهيم مثل "الإصلاح" الذي يفترض أن الشريعة مَعيبة أو معطوبة وتحتاج إلى التصحيح والتحديث، أي أن سردية "الإصلاح" الاستشراقية التي ترهن الشريعة إلى رواية تاريخية تمثل حقبة الإصلاح ذروتَها هي أبعد من مجرد نَقل ما قبل الحديث إلى الحديث، فهي تُفصح عن موقف سياسي وأيديولوجي تجاه الشريعة ومجتمعاتها.

 

حلاق يرى أن الشريعة "منظومة حياتية وثقافة" تم اختزالها – في الرؤية الاستشراقية – في مدونة قانونية تُجسد الفرق بين صورتها ما قبل الحديثة كبنية عضوية والصورة المقنَّنة منها التي تنتمي إلى الحقبة الحديثة، كما أنها تُقحم نفسها – بوصفها نصًّا قانونيًّا – في سياسات لم تَخْبُرها من قبلُ في مرحلة ما قبل الحداثة. أي أن "الشريعة" -عنده- ليست مجرد نظام قضائي أو مذهب فقهي وإنما "ممارسة خطابية" -بتعبير ميشيل فوكو-  "ربطت نفسها بنيويًّا بالعالم من حولها بطريقة عمودية وأفقية، بنيوية وخطية، اقتصادية واجتماعية، أخلاقية وقيمية، فكرية وروحية، أبستيمولوجية وثقافية، نصية وشعرية"، وكان لا بد لمثل هذه الدراسات المتراكمة لحلاق أن تقوده إلى النتيجة التي وصل إليها وهي استحالة أسلمة الدولة الحديثة، في سياق نَقدِه للفكر الاستشراقي وسردياته الذي كرّس له دراساته فهو لم يَعمد – أصالةً – إلى نقد أطروحات الإسلاميين ولا يتوجه أصلاً إلى القارئ العربي.

 

وعلى خلاف حلاق، ركزتُ في دراساتي في السنوات العشر الماضية على دراسة التشكيلات الفقهية الحديثة من الداخل، وانصب جهدي على الفكر الإسلامي والعربي خاصةً، ولذلك كشفتُ عن تناقضات الدولة الإسلامية في دراستي "الوسطية الإسلامية وفقه الدولة" سنة 2012، وشرحتُ في كتابي الأخير "العنف المستباح" كيف أن الحركات الإسلامية عامةً هي خروج على التقليد الإسلامي؛ لأنها حركاتٌ حديثةٌ من جهة مراهنتها على الدولة كسلطة مركزية، ومن جهة استعارة التقنيات والوسائل والمفاهيم والصيغ الحديثة، وأن استعادتها للمكونات التراثية هي استعادةٌ حديثة؛ بما هي استعادة تأويلية في سياق حداثي، فحتى شعار "تطبيق الشريعة" هو أبرز تجليات حداثة هذه الحركات؛ لأنها حولت الشريعة إلى سلطة تقنين.

 

فالقانون قائم على سلطة القهر والضبط السلطوي، أما الشريعة فهي أوسع من ذلك بكثير، والأخلاقي في القانون ثانويٌّ بينما لا ينفك عن الشريعة، والقانون يسعى إلى ضبط ظواهر الناس وسلوكياتهم بينما تسعى الشريعة إلى تعبيد الناس لله ظاهرًا وباطنًا أو بتعبير الإمام الشاطبي: "حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ لله اضطرارًا"، وفوق كل ذلك فإن الشريعة كانت نتاجَ امتزاج التجربة التاريخية وتفاعل الجماعة المسلمة مع النص الديني، ولم تكن فعلَ السلطة؛ لأن هذا السعي المحموم إلى الضبط والتقنين هو من صلب فكرة الحداثة بينما اتسم تراثنا عبر قرونه بالثراء والتنوع حتى في تفسير النص القرآني الذي لا يخلو منه أي تفسير ما قبل حديث.

 

يرجع جزء من مشكلة الخلط الفكري والمفهومي إلى أن مجتمعاتنا تَحَدَّثت دون تنظيم، أي أنها خضعت لتحديث قَسْري لم يكن نتاج تَطَور طبيعي بل نتيجة صراعات وإكراهات استعمارية وسلطوية

إن تَلَقي أطروحة "الدولة المستحيلة" وما أحاط بالكتاب من تأويلات يعكس مسلّمات وخلفيات القارئين أكثر مما يعكس فكرة الكاتب، فالمدفوعون بنموذج الخلافة سيجدون في الكتاب بُغيتهم للخروج من شكل الدولة الحديثة واستعادة نموذج الخلافة رغم أن حلاق لا يعني ذلك مطلقًا، والمدفوعون بنموذج الدولة الحديثة ويرونها الفردوسَ المفقود سيَنقمون على حلاق جرأتَه على القول باستحالة أسلمتها وهم يعيشون لهذا المشروع وأفنَوا أعمارهم في سبيله.

 

فالفكرة المركزية هنا هي الدفع باتجاه البحث عن نماذج خارج قواعد اللعبة الليبرالية التي تنظر إلى الحداثة بوصفها "لعبة ذات طرفين": الطرف الأول: العلم والتقنية وقد تَحَررت القوى المنتِجة من أغلالها بوساطة بروز الرأسمالية، والطرف الثاني: الدين والكنائس والقوى التي تسعى إلى المحافظة، وأنه لا طرفَ يستطيع الانتصار دون هزيمة الطرف الآخر! ولذلك طرح الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس فكرة "المجتمع ما بعد العلماني" الذي يلتمس استمرارية الجماعات الدينية في محيط يستمر في عَلْمنة نفسه، أي أن فكرة البحث خارج الفكرة السائدة والنهائية هو تَوَجه يَتوزع على شخصيات مختلفة ومن مداخل متنوعة. ولكن البحث خارج النسق المهيمن أو خارج النموذج (البرادايم) السائد يتطلب عقولاً نقدية، وجلَدًا فكريًّا لا يَقدر عليه المولعون بالجمهور أو التجييش الأيديولوجي، كما لا يَقدر على استيعابه المُقَلِّدة للغرب أو للتراث.

 

ويرجع جزء من مشكلة الخلط الفكري والمفهومي إلى أن مجتمعاتنا تَحَدَّثت دون تنظيم، أي أنها خضعت لتحديث قَسْري لم يكن نتاج تَطَور طبيعي بل نتيجة صراعات وإكراهات استعمارية وسلطوية وهو ما يَخلق هذه الفوضى في التفكير والعنف في الممارسة التي تبدو لدى جماعات العنف التي تارةً تريد استعادة الخلافة على صورتها التاريخية السالفة وتارة عبر الخلط بين الإبقاء على لقب الخليفة وتسمية "الدولة الإسلامية" كما في حالة داعش مثلاً.

 

لم تُفلح جل كتابات الإسلاميين في تقديم تنظيرات متينة لأطروحة الدولة الإسلامية تستند إلى أساس فلسفي عميق أو إلى وعي بفلسفة الدولة الحديثة وآلية اشتغالها كما فعل بيار بورديو ونيكولاس بولنتزاس وآخرون

كان من المفترض أن تثير أطروحات طه عبد الرحمن وحلاق وطلال أسد وآخرين نقاشاتٍ عميقة وتساهم في تطوير التفكير والبناء عليه لإرساء حالة فكرية تراكمية، ولكن هذا لا يحصل إلا في حالة وجود عقل وَطّن نفسه للتعلم المستمر والاستعداد له، فمشكلة العقل الأيديولوجي أنه عقلٌ مغلق وانفعالي لا يَقدر على أن يعيش "عزلة يدخل بها ميدان فكرة" يُراجع فيها ذاته وأفكاره ويطورها ويصححها، كما أنه حين يقرأ أفكارًا مغايرةً فإنه يتلقاها بتَحَفّز أو يقرأ فيها هواجسه ومخاوفه.

 

لم تُفلح جل كتابات الإسلاميين في تقديم تنظيرات متينة لأطروحة الدولة الإسلامية تستند إلى أساس فلسفي عميق أو إلى وعي بفلسفة الدولة الحديثة وآلية اشتغالها كما فعل بيار بورديو ونيكولاس بولنتزاس وآخرون، وبدل أن يُسهم نقد أطروحة "الدولة الإسلامية" في مزيد من التفكير النقدي ومراجعة الذات دفع إلى مثل هذه التوترات النفسية -لدى البعض- التي تعكس عمق المأزق الفكري. فلا بد من فك السحر عن "الدولة الإسلامية" حتى يكون بوسعنا أن نرى أفكارًا أخرى تحملنا إلى فضاءات جديدة خارج المألوف والمكرور الذي لم يَنضج ويبدو أنه غير قابل للنضوج لا فكرًا ولا ممارسة بعد هذه العقود من الخطاب الأيديولوجي. وما يُعَمّق المأزق الراهن هو ذلك التنافر بين مأزق الوجود/الواقع الذي عكَسته تجربتا مصر وتونس، ووجوب الوجود الذي استبطنته عقول المؤمنين بأن إيجاد هذه الدولة بتلك المواصفات هو جزء مَكين من الإيمان أو يكاد يكون ركنًا من الدين.

 

لا يعني هذا النقد مطلقًا – ولم يكن ليعني – التسليمَ بالمطالب العلمانية القهرية التي تحاول أن تفرض على المؤمنين -وحدهم- التمييز في هويتهم بين ما هو عام وما هو خاص، وترجمة قناعاتهم الدينية بلغة علمانية حتى يتم قبولها من قِبَل غير المؤمنين ليتم الاعتراف بهم مواطنين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.