شعار قسم مدونات

عن نساء إيران الغاضبات

blogs - إيران
الثورة.. "مؤنث" محكوم بـ"المذكر" 
في التاسع من يناير 2009 كنت أخطو وسط غابة من الفتيات في كلية الفنون الجميلة الواقعة في شارع وصال، وتتبع لجامعة طهران، في طريقي لمقابلة الدكتورة زهراء رهنورد، الناشطة الإيرانية وزوجة مير حسين موسوي التي تخضع معه اليوم لإقامة جبرية، عقب الاحتجاجات التي شهدتها إيران إثر إعادة انتخاب أحمدي نجاد في 2009. ولا يعد وصف "غابة من الفتيات" مبالغة إذ إن ما يقارب الــ 70% من المقاعد الجامعية في إيران تشغلها فتيات.

كانت، النحاتة وأستاذة الفن، ترتدي غطاء مورداً للرأس بألوان زاهية، وما زالت تحتفظ بتلك الروح الشابة التي حملتها يوم كانت واحدة من تلامذة علي شريعتي الأثيرين لديه، ووصفها يوم أن قدم لمعرض فني لها بأن ستكون ذات شأن.

لأكثر من ساعة كنت أخوض نقاشاً مع سيدة تملك رؤية لمشاركة المرأة وحقوقها، مع إصرار على إطار إسلامي يحكم القيم والمطالبات، لكن ذلك الإطار الذي تراه رهنورد وتدافع عنه وتؤمن بإمكاناته وقدرته على منح النساء فضاءات كبيرة للتحرك والتحرر، باتت نساء كثيرات في إيران يرفضنه اليوم، فضلاً عن أنه لا يلقى قبولاً لدى عدد كبير من رجال الدين والسياسة هناك، بل يجري التعامل معه في كثير من الأحيان بالتشكيك والاتهام والتجريم.

طوال سنوات إقامتي في إيران واحتكاكي بالنساء الفاعلات في مختلف التيارات، لم أكن بحاجة إلى التدقيق كثيراً لأرى غضب النساء الإيرانيات تجاه قضايا كثيرة في بلد حملن ثورته على أكتافهن، ثم وجدن رجاله يتصدرون المشهد السياسي ويدفعون بهن إلى المقاعد الخلفية.

طوال حديثي معها كانت لاهيجي تسوق الحجة تلو الأخرى على أن رجال الدين لا يغادرون مواقعهم كمعادين للنساء، فرغم مشاركتها الفاعلة في الثورة الدستورية، كان من المتوقع أن تُكافأ المرأة بما يليق بهذا الدور.

طوت الحركة النسوية في إيران مساراً يزيد عمره عن 150 عامًا، وخضن غمار تحركات تسعى لإزالة القيود التي يواجهنها داخل المجتمع بالتناغم مع المراحل الأولى للحركات النسوية في العالم، لكن حراكهن أخذ في كثير من الأحيان عنواناً سياسياً تحررياً، منذ أن ساهمن بثورة التبغ وصولاً إلى الفترة التي شكّلن فيها مكونًا أساسيًا في حالة الاحتجاج ضد الشاه، والقيام بدور أساسي في الثورة، وصولا إلى انتصار الثورة وما أعقبها دون جني الثمار التي كن يأملنها.

وبعد عقود من قيام الجمهورية الإسلامية تعالت الأصوات المتذمرة والتي تتحدث عن "حوسلة" المرأة لأهداف سياسة، ورغم أنها لا تنكر حدوث خيبة الأمل، بقيت رهنورد طوال الحوار ترفض وصف المرأة الإيرانية بالوسيلة، دون أن تنكر قناعتها بأن الحكومات الإيرانية المتعاقبة، ويتساوى في ذلك حكومة رفسنجاني وخاتمي وأحمدي نجاد، عجزت عن منح النساء الإيرانيات المكانة اللائقة، وتعتقد أن القضية مركبة تعكس تناقضًا اجتماعيا وفكريًا.

لقد تشكلت أول حركة نسوية في إيران من الناحية التاريخية مع انتفاضة التنباك (1891 – 1892)، حين شاركت النساء بفاعلية في إبطال اتفاقية استعمارية وقعها ناصر الدين شاه القاجاري مع بريطانيا، وجاء تحرك النساء الإيرانيات استجابة لفتوى آیة الله محمد حسن الشيرازي. لقد حمل أول تحرك نسوي إيراني شعارات سياسية وضد استعمارية، وعلى قصر التجربة إلا أنها أسست للحضور السياسي للمرأة.

في مكان آخر في طهران، في دار نشر"روشنگران" (المستنیرون)، كنت أستمع إلى وجهة نظر مناقضة لموقف رهنورد من هذه الحركة، لم يكن من الصعب تلمس الخلفية الليبرالية عند الكاتبة شهلا لاهيجي، (أول ناشرة في إيران) فقد كانت تقرأ تلك الفترة بصورة مغايرة؛ فهذا الحضور يعكس بصورة جوهرية الطبيعة الأبوية للمجتمع في ذلك الوقت. صحيح أن النساء الإيرانيات شاركن بفعالية في الثورة الدستورية (المشروطة) إلا أن هذه المشاركة جاءت استجابة لمقتضيات السيطرة الأبوية، وعبرت عن نفسها بالفتوى الصادرة عن رجال الدين الذين شجعوا النساء على مقاومة القوى الخارجية. وبناء عليه فإن لاهيجي ترى أن "انتفاضة التنباك" -التي ارتكزت بشكلٍ أساسي على الفتوى- تمثل في حقيقتها نموذجًا للطاعة، "طاعة الرجال عمومًا ورجال الدين على وجه الخصوص".

ورغم نقدها لتلك الفترة إلا أن لاهيجي ترى أن فترة "الطاعة الأبوية" جاءت نتيجة لظروف المرأة الاجتماعية والثقافية، فقد كانت نسبة الأمية بين النساء الإيرانيات في تلك الفترة تصل إلى 95%؛ ولذلك فمن "الصعب انتظار نتيجة مغايرة لأن التغيير خاصة على الصعيد الاجتماعي مرتبط بصورة أساسية بمستوى التعليم".

مع كل انتخابات رئاسية يتصدر شرط الذكورة المشهد، ومازال الإصرار الذي رأيته في ملامح أعظم طالقاني…قبل سنوات طويلة ماثلاً وهي تصر على أن كلمة رجال الواردة في القانون لا تمنع المرأة من تولي المنصب.

طوال حديثي معها كانت لاهيجي تسوق الحجة تلو الأخرى على أن رجال الدين لا يغادرون مواقعهم كمعادين للنساء، فرغم مشاركتها الفاعلة في الثورة الدستورية، كان من المتوقع أن تُكافأ المرأة بما يليق بهذا الدور لكن النتائج جاءت مخيبة، فقد وضع مجلس الشورى الذي أعقب الثورة الدستورية في مطلع القرن العشرين المرأة ضمن "فئة الحمقى والقصر".

والغريب -كما ترى لاهيجي- أن تصدر هذه "النظرة الدونية للمرأة عن شخصية مؤثرة مثل آیة الله مدرس الذي كان يحظى باحترام واسع؛ ففي أحد أحاديثه في المجلس تحدث عن المرأة بقوله: بقدر ما بحثنا إلا أننا لم نجد لهذا الموجود عقلاً.. بحيث يمكننا أن نعطيه الحق في إدارة شؤون نفسه، ولذلك فالمرأة يجب أن تبقى تحت قيمومتنا نحن الرجال، وهي لا يمكنها أن تكون صاحبة الحق في تقرير مصيرها حتى تستطيع أن تعطي رأيًا ويكون لها حق التصويت".

بعد عقود على حديث مدرس وما صاحب ذلك من مقارعة نظام الشاه وإسقاطه، لم تأتي الشكوى بشأن المرأة "الوسيلة" من نساء علمانيات أو من بقايا اليسار الإيراني، لكنها جاءت من نساء التيار الأصولي نفسه، عندما خاطبن مرشد الثورة آية الله علي خامنئي برسالة تشكو من "مكان المرأة الخالي" في العملية السياسية، وأجمعن على أنهن لم يكافأن بما يستحققنه، فضلاً عن شعورهن بأن هناك من يعرقل مسيرة المرأة السياسية، وستجد مقولات تتكرر دائما: "في بداية الثورة وصل حضور المرأة إلى أوجه، لكن أعقبتها موجة تحاول تهميش النساء ودفعهن إلى الحاشية".

ويأخذ فضاء الحوزات الدينية صورة مصغرة عن إيران الدولة، وعلى الرغم من أن هناك حوالي 300 أستاذة يقمن بالتدريس في الحوزات الدينية الإيرانية، وأكثر من 5 آلاف امرأة يتعلمن في هذه الحوزات، إلا أن الاجتهاد مازال باباً مغلقاً أمام النساء، مع وجود تباين في الآراء بين علماء الدين حول قضية اجتهاد النساء وفتوى لمرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي الذي يسمح للنساء بتقليد المجتهدات في الشؤون الفقهية.

ولعل التمييز الواقع ضد النساء لا تجد من يعترف به في الحوزة، لكن رفيق الخميني، آية الله موسوي بجنوردي وفي معرض نقاشي معه بشأن هذه القضية سجل هذا الاعتراف: سأقول لك بصراحة ومن خلال خبرتي وتدريسي في الحوزة، تسجل المرأة المجتهدة مقدرة فقهية عالية، لكنها تتعرض للتمييز".
لقد أحكم الرجال السد وجعلوه منيعاً في مواجهة النساء، وكان الدستور الإيراني الركن الأساسي في هذا السد، ففي جميع البنود الخاصة بالمناصب العليا، يشترط "الذكورة" تلميحًا أو تصريحًا. ولا تتجاوز نسبة وجودهن في المناصب العليا الـ 7,2%. كما أن الساحة الدبلوماسية والمقامات العليا في السلطة القضائية تخلو من النساء إلا من حالات نادرة. وفي مجلس الشورى لا تحضر النائبات الإيرانيات في لجان السياسة الخارجية والأمن القومي، ولجنة القضاء مثلاً، بل يتركز حضورهن في لجان الثقافة والتنمية والتعليم العالي والصحة والبحث العلمي.

سعت طالقاني ونساء أخريات يقر لهن رجال الدين بـ"الفضل والعفة"، لإزالة الإبهام الخاص بكلمة "رجال" لأن ذلك يعني إغلاق الطريق أمام مساهمة المرأة الإيرانية في المجالات كافة.

ومع كل انتخابات رئاسية يتصدر "شرط الذكورة" المشهد، دون أن ترى النساء نوراً في آخر نفق الذكورة الطويل، وما زال الإصرار الذي رأيته في ملامح أعظم طالقاني، ابنة آية الله طالقاني أحد أهم رجالات الثورة الإسلامية، قبل سنوات طويلة ماثلاً وهي تصر قبل أيام على أن كلمة "رجال" الواردة في القانون لا تمنع المرأة من تولي المنصب، غير أن مجلس صيانة الدستور واظب على رفض ترشيحها ونساء أخريات لدورات متتالية على الرغم من وجود وجهات نظر فقهية وقانونية تؤيد رأيها. وكانت طالقاني المحجبة التي تدافع عن حق النساء في اختيار لباسهن أول امرأة ترشح نفسها لانتخابات الرئاسة الإيرانية قبل ما يقرب من 20 عامًا.

وتقف المادة 115 من الدستور الإيراني كشرك تقع فيه النساء مرة تلو أخرى، وتشترط هذه المادة انتخاب الرئيس من بين "رجال متدينين سياسيين". وكلمة "رجال" المأخوذة من العربية وفق المعنى اللغوي تأتي بمعني الذكور، وكذلك بمعنى الأفراد الصالحين، لكن مفسري القانون ظلوا مصرين على المعنى الظاهر ولم تفلح أصوات ذات اعتبار قالت بأنها في العربية تعني الأشخاص المشهورين واللائقين إذا اقترنت بصفة. لا يوجد في الواقع تفسير أو تعريف قانوني لمصطلح "الرجل السياسي"، ووفقًا للمادة 98 من الدستور الإيراني فإن مجلس صيانة الدستور هو المنوط بعملية التفسير هذه. وقد حاول نواب في مجلس الشورى حسم الخلاف بشأن هذه المعضلة من خلال إضافة مادة إلى القانون المعد للانتخابات لكن المادة حُذفت بالكامل عندما نوقش القانون في المجلس بصورة علنية.

وفي تتبعي لهذه القضية بحثيا، وجدت أن هذه الإشكالية رافقت المناقشات الأولى لوضع الدستور الإيراني وكانت المسودة المقترحة من قبل الحكومة المؤقتة عقب انتصار الثورة تخلو من كلمة "رجال"، لكن هذه المسودة لم تأخذ طريقها القانوني وقام مجلس الخبراء بتشكيل لجنة سباعية وضعت هذه المسودة جانبًا وقدمت مسودة جديدة للمجلس تضمنت في موادها أن "رئيس الجمهورية يجب أن يكون إيراني الأصل، يعتنق المذهب الرسمي للدولة ويؤمن بأصول الجمهورية الإسلامية وأن يكون رجلاً حسن السوابق معروفًا بالأمانة والتقوى". ولقي هذا النص اعتراضًا من قبل السيدة منيرة گرجي المرأة الوحيدة في مجلس الخبراء في ذلك الوقت، وقالت: إن رئاسة الجمهورية ليست إمامة وإنما هي نوع من الوكالة تقتضي الأمانة والتقوى وهي صفات يمكن للمرأة أن تتمتع بها كما الرجل.

قبل أيام أعادت طالقاني الكرة، وسجلت نفسها كمرشحة لرئاسة الجمهورية وكتبت: نحن قوة عظيمة.. لا يمكن أن تدفعوا بنا خارج مجال رؤيتكم.

لكن اعتراض السيدة گرجي لم يلق أذنًا مصغية وقامت رئاسة اللجنة بإدخال تعديلات على المادة تقول بأن "رئيس الجمهورية يجب أن يكون من الرجال المتدينين السياسيين الذين يتمتعون بالشروط التالية: أن يكون إيراني الأصل، مديرا مدبرًا، حسن السوابق، تقيًا وأمينًا، مؤمنًا بمبادئ الجمهورية الإسلامية والمذهب الرسمي للدولة". وجرت المصادقة على ذلك بموافقة 52 عضوًا ومخالفة أربعة أعضاء وامتناع أربعة آخرين عن التصويت الذي جرى بمشاركة الأعضاء الستين للمجلس. ويقال: إن آية الله بهشتي الذي كان وزيرًا للعدل في حكومات الثورة الأولى كان يعتقد بحق المرأة في تولي هذا المنصب.

ولعل تجربة السيدة گرجی الفريدة، حيث لم تدخل سيدة بعدها إلى مجلس الخبراء، تحمل دلالات كثيرة، فقد طالب أعضاء لم يرق لهم حديثها بطردها من المجلس، فيما كانت تتحدث عن مسؤولية الجميع أمام نصوص القرآن: "لقد وردت عبارة "ومن لم يحكم بما أنزل ‌الله" ثلاث مرات في سورة المائدة…علينا أن ننتبه في هذا الاجتماع المهم إلى حقوق هذه الفئة، إن المؤسسة الاجتماعية تقوم بالكامل على عاتق النساء.. فلا تضيعوا حق النساء، أقول لكم: نحن النساء محرومات.. مازلنا محرومات، وهذا واقع وليس شعاراً أردده".

سعت طالقاني ونساء أخريات يقر لهن رجال الدين بـ"الفضل والعفة"، لإزالة الإبهام الخاص بكلمة "رجال" لأن ذلك يعني إغلاق الطريق أمام مساهمة المرأة الإيرانية في المجالات كافة، وعبر موقعها عبر موقعها "رسالة المرأة"، كتبت: "إذا كان المقصود هم الذكور فذلك يعني ظلمًا في حق ما يزيد عن 30 مليون امرأة إيرانية"، و "عندما رشحت نفسي للمرة الأولى كنا تسع نساء، ووصل عددنا اليوم إلى 90 امرأة يرغبن في الترشح، ومن واجب مجلس الصيانة أن يعيد النظر في موقفه قبل أن يصل العدد الى تسعة ملايين"… قبل أيام أعادت طالقاني الكرة، وسجلت نفسها كمرشحة لرئاسة الجمهورية وكتبت: "نحن قوة عظيمة.. لا يمكن أن تدفعوا بنا خارج مجال رؤيتكم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.