شعار قسم مدونات

كيف تنبأ "أوريل" بالحرب في سوريا؟

blogs - novel

يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله: "الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم، وإذا أدبرت عرفها الجاهل". فالعلماء والمفكرون والسياسيون النابهون والأدباء الموهوبون غالباً ما يرون من وراء حجب الجهل التي تغشي أبصار العامة، فيقرأون التاريخ جيداً ويحللون الواقع ثم يطلقون لخيالهم العنان فيستشرفون المستقبل، وإذا مشوا في الناس يحذرونهم مما هم مقبلون عليه من الأهوال اتهموهم بالجنون والهوس والضلال وساروا في طريقهم غير مبالين كعادة الجهال مع أنبيائهم والمصلحين منهم، حتى إذا أشرفوا على الهلاك وأصبحوا على شفا الهاوية ندموا وتابوا وتمنوا أن لو عاد بهم الزمن ولكن الزمن أبداً لا يعود.
 

"إذا أردتم صورة المستقبل فتخيلوا بوطاً عسكرياً مطبوع أثره على وجه الآدمية إلى الأبد"
كان هذا ما صرح به الروائي الإنجليزي المعروف جورج أوريل من على فراش الموت شتاء 1950 لصحفية من إذاعة الـ (بي بي سي) البريطانية، حين كانت الصحفية تجري معه حواراً عن روايته الشهيرة (1984) وكيف أنها صدمت القارئ لبشاعة النموذج الذي عرضته للحكم الشمولي العسكري الديكتاتوري الذي يقوم على التحكم في مشاعر وأفكار وعقائد الناس وتجويعهم وتعذيبهم وتزييف التاريخ وفبركة الواقع.
 

الحرب تؤمن سبباً وجيهاً جداً للمستبد في أن يبقى حذائه العسكري مرتكزاً على رأس شعبه، فإن كان منتصراً فهو القائد الزعيم، أما إن انهزم فإنه يطالب الشعب بالعمل المتواصل وزيادة الإنتاج لتعويض خسائر الحرب.

الرواية التي نشرت عام 1949 تجري أحداثها في المستقبل حين أصبحت بريطانيا والأمريكيتين دولة واحدة اسمها (أوقيانيا)، وابتلعت روسيا باقي دول أوروبا لتصبح دولة واحدة اسمها (أوراسيا)، أما الصين واليابان وبعض الدول الآسيوية فقد صاروا تحت حكم دولة واحدة أصغر في المساحة لكنها أكبر في عدد السكان واسمها (إيستاسيا)، كل هذه التحولات العالمية الضخمة قد حدثت قبل عام 1984 الذي تجري فيه أحداث الرواية.
 

تلك الدول الثلاث العظمى -كما يتنبأ (أوريل)- في حالة حرب مستمرة وسباق تسليحي مستعر لا يهدأ ولا يهدف أيضاً إلى القضاء على إحداهن، حيث أن كل دولة تمتلك من القوة والمنعة ما يساعدها على البقاء والمقاومة، لكن الهدف الرئيسي من تلك الحروب هو القضاء على فائض السلع الاستهلاكية الذي زاد جداً في القرن الـ 19 بسبب التقدم الصناعي السريع للغاية، مما كان ينبئ بحياة رغدة للشعوب في القرون التالية تزيد من ترفها وتقضي على فكرة الطبقية، فكان لزاماً على حكام تلك الدول أن يختلقوا سبباً موضوعياً -ألا وهو الحرب- كي يوقفوا عجلة التقدم والإبداع أو يحولونها فقط لخدمات تصنيع الأسلحة وأساليب التجسس الحديثة للانتصار على "الأعداء" التقليديين للـ "الحرية" و "التقدمية" و "الثورة" وغيرها من الشعارات.
 

اللافت في هذا الجزء من الرواية المثيرة للجدل أن (جورج أوريل) لم يذكر دول الشرق الأوسط في ذلك التقسيم الذي تنبأ به، لأنه وإن كان قد أسهب في تبيان معاناة وتجويع شعب (أوقيانيا) تحديداً إلا أنه قد تنبأ بمستقبل أبشع لدول منطقة الشرق الأوسط وأرخبيل إندونيسيا ودول خط الاستواء الأفريقية وبعض الدول الإسلامية الأخرى، ذلك المستقبل الذي بانت بعض معالمه بعد الحادي عشر من سبتمبر في الحروب التي قادتها (أمريكا) -أو أوقيانيا إن شئت القول- ضد أفغانستان ثم العراق.
 

ولقد ظهرت فكرة (أوريل) بجلاء بعد الضربة الأمريكية لمطار (الشعيرات) في (سوريا)، تلك الضربة التي لم تقض على النظام السوري الدموي ولم تقض كذلك على قدرات حلفائه الروس أو الإيرانيون أو المليشيات المناصرة لهم، ولكنها بددت حوالي 100 مليون دولار من الأسلحة الأمريكية و800 مليون دولار من المقاتلات الروسية المملوكة للنظام السوري الذي استمر في انتقامه من أبناء شعبه بصب مزيد من حممه القاتلة على رؤوسهم ومنازلهم.
 

إن رصيد الإنسانية في تناقص مستمر مقابل ارتفاع مضطرد في سيطرة مراكز القوى العالمية على مقدرات المعمورة التي لم تعد كذلك.

فقدر شعوب تلك المنطقة التي تقع في منتصف الكرة الأرضية أن تكون بلادها مسرحاً للصراع بين القوى العالمية وأن تصبح أرضها معملاً فسيحاً لتجارب الأسلحة الجهنمية التي آخرها لن يكون "أم القنابل"، فتلك القوى العظمى قد أيقنت بعد الحرب العالمية الثانية أن الحروب لن تحل مشاكلها أبداً، لكنها ستكون وسيلة ناجعة لاستمرارهم في الهيمنة على شعوبهم البائسة وإنفاق خيرات إنتاجهم في قتل وتدمير أناس آخرين.
 

فالحرب تؤمن سبباً وجيهاً جداً للمستبد في أن يبقى حذائه العسكري مرتكزاً على رأس شعبه، فإن كان منتصراً فهو القائد الزعيم الملهم الذي لا يشق له غبار وقد دافع عن شعبه البائس ضد أعدائه الأشرار، أما إن انهزم فإنه يطالب الشعب بالعمل المتواصل وزيادة الإنتاج لتعويض خسائر الحرب، وإن طالب الناس بهامش من الحرية أو الحياة الكريمة فإنهم سيصبحون ساعتها خونة وعملاء لا يراعون ظروف وطنهم المنكسر بسبب هزيمته في حرب لا يدرون عن أحداثها أو أسبابها أو نتائجها شيئاً!
 

فالقذيفة التي تسقطها قوات التحالف على (الموصل) تزيد من نسبة العاطلين عن العمل في أوروبا، وكلما تحركت حاملات الطائرات الأمريكية في المحيط الهادي ازداد عدد الجوعى في (الصومال)، وكلما قصفت المقاتلات الروسية (حلب) ارتفعت تكاليف التدفئة في (سيبيريا)، فرصيد الإنسانية في تناقص مستمر مقابل ارتفاع مضطرد في سيطرة مراكز القوى العالمية على مقدرات المعمورة التي لم تعد كذلك.
 

"لا تدعوا هذا يحدث، إنه يعتمد عليكم" كانت هذه آخر عبارة يتفوه بها أوريل في حديثه الصحفي كوصية مودع لأهل الدنيا، فإن وجود نماذج كـ "الأخ الأكبر" وحزبه ونظامه في هذه الأرض سيحولها إلى جحيم يأكل الأخضر واليابس، وسيكون سكان الأرض جميعاً باختلاف أعراقهم ودياناتهم هم الضحايا وسيتحولون إلى وقود لآلة الحرب الجهنمية التي لا تنتج إلا الكراهية والتعصب والجهل، ولا تهدف إلا لترسيخ حكم الديكتاتوريين وتسلطهم على شعوبهم البائسة. فهل نفذنا وصية الرجل وأدركنا ما نحن مقبلون عليه أم أن الأسوأ لم يأت بعد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.