شعار قسم مدونات

هل نحن متساوون في القمع؟

blogs - موريتانيا
في هذه الأيام يدور في موريتانيا حديث حول القمع والعنصرية، بعد قمع السلطات لمسيرة شبابية رفضت الترخيص لها، واعتقلت بعض المشاركين فيها وكان من بينهم نساء من شريحة "الزنوج"، إحدى أهم الشرائح المكونة للنسيج المجتمعي الموريتاني.. الأمر الذي أثار جدلا بين أوساط الكتاب والمدونين الموريتانيين، وأعاد حديثا متجددا عن القمع والعنصرية، وإشكالية الأنشطة الفئوية، وتعامل السلطة معها "قمعا أو تشريعا" وتعاطي المجتمع لها "تضامنا أو خذلانا".

فهل نحن متساوون في القمع؟ أم أن ثمة تمييزا لبعض الشرائح بمستوى من القمع والتنكيل، دون غيرها؟! وكيف يمكن أن نفهم ظاهرة تخاذل البعض عن مناصرة قضايا حقوقية ووطنية عادلة؟

منذ زمن أصبحت لدي قناعة بأن الشيء الوحيد الذي يوزع في هذه البلاد بعدالة تامة، هو القمع، وأعني بالعدالة هنا، "العدالة كإنصاف" حسب مفهوم الفيلسوف الأميركي جون رولز، فالإنصاف بالنسبة لرولز، هو "إعطاء كل فرد في المجتمع حق الاستفادة بالتساوي من الحقوق الأساسية" ونحن ندرك أن أول الحقوق الأساسية للمواطن في ظل هذا النظام الحالي -الشبيه بأترابه من الأنظمة العربية- هي "القمع" و"القهر" و"الحرمان".

ولحد الآن لم تقنعني دعاية وكتابات بعض السياسيين والحقوقيين، ممن يروجون لاعتقال نشطاء (مسيرة الشباب السلمية) على أنه تصرف سلطوي من منطلق عنصري بحت يستهدف نشطاء شريحة "الزنوج" دون غيرهم بهذا الأسلوب!

لا جدال أن العنصرية منتشرة في المجتمع ومتفشية في دهاليز الدولة، وهو أمر مؤسف، ومؤلم، ولكن محاولة إلباس كل فعل وردة فعل لبوسا عنصريا، وتحميل فئة معينة دون غيرها مسؤولية ذلك، قد يكون أحيانا في حد ذاته عنصرية.

لست هنا في صدد نفي تهمة "العنصرية" عن تصرفات نظام مستبد، لأن ذلك أمر من الصعوبة بمكان -ولا أرضى لنفسي تلك المهمة أصلا- فالاستبداد أبو الشرور وأمها، ويصعب تمييز أفعاله ومعرفة مراميها ومنطلقاتها على وجه الدقة، ما إن كانت عنصرية أم فسادا أم تمييزا أم تضييقا أو موقفا سياسيا لحظيا، أم تحركا أمنيا.. أم ليست شيئا من ذلك كله وإنما محض الطغيان وممارسة هواية!

لا أنفي أن يكون هذا التصرف وهذه المعاملة بذاتهما مقصودان في هذه الظرفية، وأن تشديد القمع أو العقاب على هذا الحراك أو هذه المسيرة بعينها، ربما يكون لحاجة في نفس المستبد الأكبر، أو أحد أجنحته المتصارعة، للَّعب على وتر العنصرية، وإشغال الشارع بهذا الجدل من جديد، ولكن ذلك لا يعني إطلاقا أن بقية الشرائح لا تنال حظها من القمع، والتهميش، والحرمان.

فنحن لدينا سلسلة طويلة من الأحداث والمواقف، وسجل حافل بتعامل هذا النظام، مع أنشطة احتجاجية مختلفة، يدل بشكل واضح على حصول كل فرد وكل شريحة من هذا الشعب على نصيبها من "ثروة القمع الوطني" بغض النظر عن اللون أو العرق أو المطالب أو الشعارات المرفوعة.

ولو بدأنا بتاريخ الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية إلى حراك 2011 مرورا بأزمة المعهد العالي والجامعة ومسيرات الداخل من الجنوب (المذرذرة وروصو والركيز) والشمال (أطار واكجوجت ونواذيبو) والشرق (حراك كرو وكوبني والنعمة) وصولا إلى حملة الشهادات العاطلين عن العمل، ومسيرات المعارضة ووقفات المبادرات والاتحادات الطلابية، لوجدنا أن القمع طال الجميع وتم توزيعه عليهم بسخاء وكفاءة واقتدار!

فعلى سبيل المثال في العام 2012 تم سحل الطالبات في المعهد العالي للدارسات والبحوث الإسلامية، على أيدي الشرطة، وتم توقيفهن في المفوضيات، وكان الحراك المتضامن معهن يومئذ محدودا ولم يخرج عن إطار بعض المؤسسات الحقوقية والصحفية والنقابات الطلابية.. ولم تتحول القضية إلى رأي عام، وغابت مكونات مجتمعية عن مناصرة ضحايا تلك الأزمة، وذلك القمع، ومع ذلك لم يكن هناك حديث أو حملة إعلامية لوصف تخاذل الآخرين بالعنصرية، وإلباس المواقف المتفرجة لبوسا "عنصريا".

وهذا الأمر يدفعنا للإجابة عن سؤال كثيرا ما يطرحه البعض، متسائلا: لماذا تغيب أصوات المناصرة والتضامن مع بعض المسيرات الحقوقية والمطالب العادلة؟ فهل الأمر يعود لموقف عنصري تجاه أصحاب تلك القضايا أم أنه يعود لأسباب أخرى؟

لا جدال أن العنصرية منتشرة في المجتمع ومتفشية في دهاليز الدولة، وهو أمر مؤسف، ومؤلم، ولكن محاولة إلباس كل فعل وردة فعل لبوسا عنصريا، وتحميل فئة معينة دون غيرها مسؤولية ذلك، قد يكون أحيانا في حد ذاته عنصرية، وإطلاق تفسيرات كهذه بدون وجود دليل قوي، أمر من الخطورة بمكان، ويشجع على ترسيخ العنصرية والتطبيع معها أكثر من القضاء عليها.

رغم أهمية المشكل اللغوي ومحوريته في كثير من تجليات الظواهر الاجتماعية التي نعيشها، إلا أننا لا يمكن أن نجعله هو السبب الوحيد، فثمة طبقية راسخة في المجتمع، حتى بين أبناء الفئة الواحدة.

إن تجاهل بعض المدونين لقضية ما أو عدم تفاعلهم معها، ليس بالضرورة لموقف عنصري تجاه تلك القضية أو أصحابها، وإنما يعود لأسباب أخرى كثيرة يمكننا فهم هذه الظاهرة من خلالها، من بينها على سبيل المثال:

-أن النخبة الحية في المجتمع، والقادرة على الحشد والتحرك والتفاعل مع الأحداث، هي النخبة الشبابية المنضوية في تيارات وأحزاب أيديولوجية، وتلك الطاقات الشبابية والمجتمعية القادرة على صنع الحدث لا تتحرك عادة بمبادرات فردية، فهي مرتهنة لقرارات سياسية والتزامات حزبية تحتم عليها انتظار اليافطة والشعار لكي تتحرك تحته! فأحيانا يكون إحجامهم عن التضامن والاندفاع في المناصرة لسبب موقف سياسي من المسيرة أو مطالبها أو من يقودها، وفي أحيان كثيرة يعود لعدم معرفتهم وعدم اهتمامهم بها أصلا.

وللتذكير وحتى لا يفهم كلامي خطأ، فأنا لا أتحدث هنا عن تبرير عدم إدانة القمع – فهو مرفوض مطلقا، جملة وتفصيلا- وإنما أتحدث ظاهرة عن عدم التفاعل مع بعض المسيرات الفئوية والحقوقية وتبني خطابها ومناصرة أصحابها!

والحقيقة أن السبب الأكبر والرئيسي في كل ذلك هو "مشكلة اللغة". ففي موريتانيا يقف "المشكل اللغوي" كعائق وحاجز بين بعض مكونات المجتمع، فغياب التواصل المباشر ووصول الخطاب، هو السبب الرئيسي وراء أغلب المشاكل الاجتماعية الموجودة، الناجمة عن تراكم فشل المنظومة التعليمية، وتقصير الجهات الرسمية، في خلق مجتمع متناغم يتحدث بلغة واحدة، أو يتفاهم فيما بينه على الأقل، مما أدى إلى وجود مجتمعات موازية، وكيانات منعزلة عن بعضها البعض، كل مجتمع منها يعيش في عالمه وهمومه ومشاكله.

وانتقل ذلك من الواقع إلى العالم الافتراضي أيضا، فالناطقون بالعربية، يشكلون مجتمعا افتراضيا على مواقع التواصل، له همومه ومشاكله وقضاياه و"هاشتاكاته"، وكذلك "المجتمع الفرانكفوني" يشكل عالمه الخاص على مواقع التواصل الاجتماعي.

فهل تحظى قضايا المجتمع الناطق بالعربية، بنفس الاهتمام والمناصرة داخل المتجمع الفرانكفوني على مواقع التواصل، وهل تحظى بنفس الحجم من التدوين في ذلك المجتمع الموازي.. سؤال أرى أن الإجابة عليه قد تساعد في فهم ما يجري في الفضاء الموريتاني العام.

أشير إلى فئة واحدة لا تطالها يد الجلاد وعصاه المرفوعة على المواطنين، وهي فئة المطبلين والمزمرين، وإن كان هؤلاء أصلا ليسوا أهل ميدان حتى ينالوا حقهم من القمع فهم أهل قصعة وثريد.

ففي موريتانيا يوجد عالَمان إلكترونيان منفصلان لغويا، عالم يدون رواده بالعربية واللهجة الحسانية، ويناقش القضايا الوطنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعرج أحيانا على القضايا الدولية والعربية والإسلامية، وتنشب فيه بعض السجالات الفكرية بين التيارات الأيدلوجية المعروفة… وعالم آخر فرانكفوني، يدون رواده بالفرنسية وبعض اللهجات المحلية، وتختلف طريقة تناوله للقضايا عن العالَم الثاني الموازي له، فلهذا الفضاء الفرانكفوني، روافده في مجال الأخبار والنقاشات على المستوى المحلي، ونظرته الخاصة للقضايا على المستوى الدولي، حيث تحضر افريقيا وقضاياها وفرنسا وماكينتها الإعلامية وتأثيرها. 

– ورغم أهمية المشكل اللغوي ومحوريته في كثير من تجليات الظواهر الاجتماعية التي نعيشها، إلا أننا لا يمكن أن نجعله هو السبب الوحيد، فثمة طبقية راسخة في المجتمع، حتى بين أبناء الفئة الواحدة، ممن يتحدثون نفس اللغة، وهنا يمكننا استحضار القضايا الحقوقية للأرقاء السابقين، ومستوى التفاعل معها ومناصرتها من قبل من يعتز بهم ويعتبرهم من أبناء جلدته، وفخر فئته!

أخيرا.. بقي أن أشير إلى فئة واحدة لا تطالها يد الجلاد وعصاه المرفوعة على المواطنين، وهي فئة المطبلين والمزمرين، – وإن كان هؤلاء أصلا ليسوا أهل ميدان حتى ينالوا حقهم من القمع فهم أهل قصعة وثريد- ولكنهم مع ذلك يحظون بنصيب من القمع، ولكنه قمع من نوع آخر، قمع الإذلال والاحتقار، فكلما بالغوا في التطبيل والتصفيق، كلما زاد كبيرهم من احتقارهم وتهميشهم والاستغناء عنهم واستبدالهم بآخرين من حظيرة القطيع المطيع!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.