شعار قسم مدونات

"الصداقة" موقعها في العلاقات الاجتماعية

blogs - friendship

عادة ما تخلق الحروب واقعاً مغايراً لا يكون مرغوباً للمجتمع في البيئة التي يدور فيها الصراع؛ لسبب بديهي، هو أن الحرب تولد مواقف وأيدولوجيات جديدة تعمل هذه بدورها على تغيير التحالفات حتى على مستوى العلاقات الاجتماعية "الصداقة مثلاً".
 

انحسار العلاقات الاجتماعية في زمن الحرب لصالح التحشيد التعبوي في تأجيج الصراعات وبث الفرقة في الوسط الاجتماعي وإحلال شرخ عميق يشكل هوة تتسع طردياً مع الزمن الذي يأخذه الصراع؛ فلو قسنا هذا على الوضع في اليمن واستفتينا عن العلاقات الاجتماعية ثم تركناها للمقارنة بين زمن ما قبل الحرب واليوم سنعرف حجم الكارثة التي جلبها لنا الصراع وكيف تشكلت الشحنات المضادة وازدادت نسبة العداء المتبادل بين الكثيرين، وكيف تحول الوضع فجأة إلى صدام مؤسف أكثر ما يثبته كم الضخ الهائل من المصطلحات العدائية التي تذكيها وسائل الإعلام عادة.
 

على مستوى الكلية التي أدرس بها الحظ الأفول المؤسف لعلاقات الزملاء فيما بينهم نتيجة مواقفهم من الحرب، ومدى الأزمة التي أطلت برأسها على مصالح الجميع نتيجة تهدم كثير من المواقف التي كان الجميع يتفق عليها سلفاً.
 

في تفسيرات المختصين يرشدنا البعض إلى ثلاثة تقسيمات للعلاقات الاجتماعية بشكل عام.
أولها: علاقة الفرد بالعائلة وهي علاقة أسرية تندرج ضمن العلاقات الاجتماعية ويصطلح عليها ب "العلاقات العائلية" أو "الأسرية"، هذه العلاقات تقوم على قواعد تبنى عليها الأسرة وتختلف من أسرة إلى أخرى بحسب القيم التي تقوم عليها بناء هذه الأسرة أو تلك، والبديهي أن تكون هذه أول علاقة يعيشها الفرد في حياته.

الصنف الثاني من العلاقات: هو ما يتعلق بالشعور الداخلي للإنسان كالعلاقات العاطفية مثلاً التي تتصدرها علاقات الحب "العشق"، هذا النوع من العلاقات بالغالب لا يقوم على أية مخطط مسبق، ويكون ناتج عن اندفاع داخلي لدى الإنسان وهو يتغير تدريجياً تبعاً للمتغيرات التي تحدث في أثناء هذه العلاقات؛ ولأن الإنسان يتطور وفقاً للظروف من حوله في أحد اتجاهين، إما أنه يتوافق مع هذه الظروف ويبدأ التأقلم معها أو أنه يختلف معها ثم يشق لنفسه طريقاً آخر يكون مضاداً للواقع الذي لم يرغب فيه.

الشاهد هنا أن الإنسان في حالة العلاقات العاطفية "الحب مثلاً" قد لا يتلاءم مع الظروف النفسية في هذه العلاقات ولذلك يبدأ في شق طريق آخر، ما يعني أن العلاقة تتجه في منحى سلبي صوب النهاية، وهذا في قياس مبادئ الإدارة يعتبر أمر غير مخطط له تكون مسألة انهياره هي مسألة وقت لا أكثر؛ وهنا ربما يتولد تناقض لدى القارئ بين ما ذكرته سابقاً وما قلته هنا حيث قد يبدي انطباعاً متناقضاً بين مسألة الشعور الاندفاعي الذي يتشكل نتيجة تراكم مواقف ودية تشكل في آخرها الحب وبين مسألة التخطيط لمثل هكذا علاقات. نتفق على كلا الجانبين ولذلك نجد أن أسوأ العلاقات المنهارة هي التي تندرج في هذا النوع وذلك لصعوبة تطبيق كلا الأمرين المتناقضين.
 

في الصداقة عادة تُقدم المشاكل الخاصة والمواقف اليومية والظروف التي يعيشها طرف ما إلى الطرف الآخر وتحظى بكل الاهتمام في الغالب ويتعاطى الطرفان في مثل هكذا مسائل بحيث يسعون معاً لاستنباط حلول مشكلة ما أو تحديد شكل المواجهة المشتركة لأي عائق.

أكثر ما يبهرني هو استطلاع تجارب سابقة في العلاقات المنضبطة، علاقات "الصداقة" وهو الصنف الثالث: المبنية على قاعدة راسخة من التفاهم والعطاء المتبادل أجدها أكثر العلاقات توازناً وانسيابية بحيث أنها الأكثر نضجاً في حال مقارنتها بالعلاقات الأخرى؛ وللعلم أسهل العلاقات التي نستطيع بناءها هي العلاقات من هذا النوع "الصداقة" وهي بالغالب تحتاج إلى موقف ما يبدأ المشوار من خلاله صوب بناء علاقة مفتوحة، ومع الأيام تتثبت قيم معينة يتفق عليها الطرفان تشكل الميثاق الذي يحمي استمرارية العلاقة أمام كل المتغيرات التي تنشط تباعاً، وهذا النوع يتشكل بطريقة عفوية عادة حيث يتصدر الموقف الأول في هذه العلاقة والذي قد يرتبط أكثر ب "الصدفة" ويتحول إلى مفتاح لها فيصبح لاحقاً الذكرى الأولى في مسيرة الأصدقاء.
 

في نفس الموضوع نجد أسلوباً آخر لتشكيل هذه العلاقات وهو أسلوب القصدية، أو العمدية، وهذا المصطلح أستعيره من كتب المنهجيات البحثية وليس له علاقة فيما أود قوله لكنني أورده على سبيل الاستعارة والمجازية لا أكثر، هذا الأسلوب يكون عكس الأسلوب العفوي الذي سردنا فيه سابقاً ويكون أسلوباً متعمداً لتشكيل علاقة ما وهو مرتبط بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها من العلاقات.

ربما لا يكون في العلاقات الأولى أو الأسرية بنفس الحضور الذي نجده في علاقات الحب أو الصداقة بتراتبية، إذن هو ينشط لدى طرف ما وجد ما يطابق رغبته في الطرف الآخر أو شيء من المصالح المشتركة ولذا فهذا الطرف يسعى لبناء علاقة مع الطرف الآخر نتيجة لهذه الأمور أو غيرها فالقصد هنا ليس على سبيل الحصر ولكن على سبيل المثال.
 

لو عدنا مجدداً إلى مفهوم "الصداقة" وتساءلنا، ما الذي يجعل هذا النوع من العلاقات يتصدر المشهد من حيث قوة كينونته بين العلاقات الأخرى؟
دعوني أولاً أخبركم عن رساخة العلاقات الأسرية وهذا ليس إجمالاً، لكن لنعتبر ذلك، هنا تكون العلاقة مبنية على أسس ضخمة غير مقررة وهي متكونة لدى الأفراد نتيجة النزعة التي يزيد زخمها كلما تعرضت الأسرة لمكروه يكون الحضور الصارم للانتماء الأسري قوياً جداً وغير مترنح إلا فيما ندر.

لكن بالمقابل هذه العلاقات رغم رسخاتها إلا أنها تبقى طي الكتمان في الحالات الطبيعة، حتى أن الفرد عادة لا يمكن أن يعطي أية شروحات عن المواقف التي يتعرض لها يومياً للأسرة، المجال هنا محدد وفق آليات غير معمدة ولذلك يكون هذا الفارق الأهم بين العلاقات الأسرية وعلاقات الصداقة؛ في الصداقة عادة تقدم المشاكل الخاصة والمواقف اليومية والظروف التي يعيشها طرف ما إلى الطرف الآخر وتحظى بكل الاهتمام في الغالب ويتعاطى الطرفان في مثل هكذا مسائل بحيث يسعون معاً لاستنباط حلول مشكلة ما أو تحديد شكل المواجهة المشتركة لأي عائق.

هذا هو ما يعطي الصداقة قيمة كبيرة ويجعلها أكثر العلاقات الاجتماعية نشاطاً وأقلها تدهوراً مقارنة بالثانية، بينما الأولى هي الأكثر صموداً أمام كل عوامل التعرية الخارجية كونها مبنية على النسب والقرابة والمصير المشترك وهي علاقة "دم" كما هو متداول.

هذا التفصيل الطويل لا يعني الإيمان المطلق لنبل علاقات الصداقة ونقاؤها بالشكل الذي تحدثنا به وتعميمه على كل علاقات الصداقة، ولكن ثمة "صداقات" مشوهة وقائمة على مشاريع مصلحية ذات بُعد استغلالي وهي عادة تكون مكشوفة في أقرب فرصة وتتجمد نهائياً على مستوى زمني محدود حيث أنها لا تلبي المعنى الأصيل للمصطلح ذاته ويكشفها الطرف الآخر في أقرب فرصة ليقرر مصيرها إلى أين، والذي يكون عادة تجميد هذه العلاقات نهائياً كونها لا تتفق مع القيمة الجوهرية لمعنى الصداقة من الأساس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.