شعار قسم مدونات

لم تعد القدس أغلى ما نملك!

blogs القدس
تكثرُ في نفسي التساؤلات، وتتدافعُ إليَّ الأحداث صورًا وذكريات وآلامًا، تراود قلمي عن هواه، وتسلبه شغفَه في الكتابة عن كل جميل، لتغريه بطعم الحزن الممزوج بالعجز والتقصير، بالتخاذل والتناسي، بهمٍّ يحمله وهنًا على وهن وبلا فصال، فإنّ هناك جراحًا تنزف وأرواحًا تئِنّ ونداءاتٍ أسمعُها في يقظتي ومنامي، همٌّ يروح وألف همِّ يرجعُ، ومع أنني كنت أخشى كثيرًا التدوين عن القدس والأقصى، فإنني لا أطيق صبرًا حتى تمتلئ مآقي عينيَّ دمعًا، وإني لأخشى ألا أنصف من أحب وأهوى، أن ينحبس مداد قلمي ليتركني مع حسرتي وبضع سطور آثرتُها على حزني وألمي وإن كان بي خصاصة، ولكن ما عدتُ أطيق هذا الصمت، هذا التناسي، أن أرى القدس ومسجدها الأقصى غريبَيْن وكأنهما في منفى الضمائر المستترة، يقاسيان سنينَ عجافًا، وعلى إثر ريح يوسف ينتظران رؤيا علَّها تتحقق، ولكن كيف ذلك ونحن في ضلالنا القديم نعشش؟ وجلسنا نستجدي قميص يوسف، وعمياننا كثر يا ليتهم يبصرون.

لم تعد القدس أغلى ما نملك، هذا تشخيص العلامات والأعراض التي تبدو جليّة ظاهرة، ويبدو أن السقم اشتدّ، وهذا الجرح يغيرُ أكثر، شغلتنا كل هموم الدنيا حتى أصبح الحديث عن القدس والمسجد الأقصى عابرًا على الهامش غير مُلزم. في أحد الأيام على أعتاب الشوق خرَّ قلبي ساجدًا يناجي كل حجرٍ وصخرة، يبكي كل موطئ قدمٍ في ساح الأقصى داسته أرجلٌ بالدم والإجرام تنجَّستْ، وراح بعدها يتحسَّسُ من شيخٍ وطفلٍ وشاب وامرأة فرأيتهم بضعًا أو يزيد، راجيًا ألّا ييأس من رَوْحِ الله، ولكنْ على بعد أمتارٍ فقط رأيت مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح ينظرون ويترقبون، وقفتُ برهةً وقلتُ لنفسي: يا ويحنا لو كان الأقصى أغلى ما نملك لكنا نحن من نحرس هذا المكان بأرواحنا وقلوبنا وأجسادنا، وانتهى يومي فيه ولم أعد له بعد ذلك.

 

في فقه الصراع بين الحق والباطل على مرِّ التاريخ، فإن كفَّة الصراع تميلُ غالبًا لأهل الباطل، فتجدهم أقوى عُدَّة وعتادًا، مالًا وسلاحًا، بشرًا وطاقات، وهي الظروف الأكثر ملاءمة لامتحان أهل الحق ليبلوهم الله حتى يعلم المجاهدين منهم والصابرين.

فماذا حلَّ بك يا أقصى وماذا أصابكِ يا قدس؟ كثيرًا ما خشيتُ السؤال ولكنني طرقتُ الباب هذه المرَّة ويا ليتني لم أفعل، أخبروني أنَّ التقسيمين الزماني والمكاني ضربا جذورهما في عمق المسجد، أن الاقتحامات أضحت زيارات يومية، بل إن صلواتٍ تلمودية تُقام في المنطقة الشرقية بل وانبطاحاتٌ وصلواتٌ جهريّة، وهم يغلقون مداخل المدينة ومخارجها بسبب أعيادهم، بل ويُخرجون الشباب من ساحات المسجد مع كل اقتحام، إن المسجد الأقصى يصبحُ مكانًا دينيًّا لهؤلاء الصهاينة، ركنا لأسباب الأعذار ولقهر العيش ولبضاعة دنيا مزجاة ننتظر من يوفي الكيل ويتصدق علينا بقليل من مسؤولية من إحساس تجاه القدس والأقصى.. ألم يأنِ؟!
 

لا زال ذلك الصوت يرنُّ في أذني، يساءلني يعاتبني ويقول: هل حقًّا لم تعد القدس أغلى ما نملك؟! بل كان أجدر أن يقول: وماذا نملكُ أصلًا؟ ضميرًا مستترًا أم نائب فاعل؟ خبرًا لمبتدأٍ محذوف ضلَّ الطريق ولم نعثر عليه حتى الآن؟ وماذا عدنا نملك حين ملكَتْنا بطونُنا، واستحوذتْ علينا لقمة العيش لتكون أسمى أمانينا، لهثنا وراء دنيا فانية، وأقنعنا أنفسنا أننا لسنا جاهزين بعد لأيِّ مشروع للتحرير، نخادع الوعي والضمير ونعطيهما جرعاتٍ من مخدرٍ ذو سباتٍ عميق.

 

ننتظرُ صلاح الدين ولن يأتي صلاح الدين فقد رحل بلا عودة، القدس تنتظرُ من هم على قيد الحياة على قيد الأمل على قيد الضمير والشجاعة، يكفي! فمن المؤلم أن يصبح حديث القدس والأقصى خاطرة نفتتح بها المهرجانات، وشعاراتٍ ننادي بها لإرضاء النفس اللوامة، ومكانًا نعلن فيه رومنسية وطقوس حبٍّ مزيفة، أو ألبومَ صورٍ لنزيِّنَ به حساباتِنا، القدسُ والأقصى أغلى من ذلك بكثير، ألسنا نقول إنما الأقصى عقيدة! فهل أضعنا عقيدتنا بحبِّ الذات والمنصب، أوليس صداق المحبِّ للمحبوب إخلاصٌ وغيرة؟! فلا بُدَّ من دواء لهذا المرض، مرض التناسي والنسيان، مرض الضعف والهوان، لأننا إن خسرنا القدس والأقصى فاقرأ على قضيتنا وحقنا السلام، ودعوا ضمائرنا ترقدُ سالمة،ً لأننا حينذاك لا نستحق أن نحيا.. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).

فإذن ما الدواء؟ فاعلم أنك إن تركنْ لكلام القرآن والسنة فحسب وتمنع حواسك الأخرى من العمل فهو تمامًا كأن تضع سماعتك هاتفك وتسمع أجمل التلاوات وتمشي في الشارع، لا تسمع ضجيج السيارات ولا نداءات المارَّة، لا تستطيع حتى النظر جيدًا للناس لانشغال تركيزك، فتبدو كأنك تعيش لوحدك بعيدًا عن هموم الناس ومعاناتهم، بعيدًا عن كل الظروف المحيطة، فهل تحسب أنَّك إنْ أقمتَ في صومعة أفكارك وأحلامك أن ستصنع شيئًا؟! إنَّك إنْ لم تترجم منهجك النظري لمنهج عمليٍّ فلم تزدْ عن كونكَ عبئًا مضافًا لقيمة الأعباء على كاهل كل من يعمل ويطبق، ذلك الجدار الذي أقمته على أفكارك وطموحاتك آن أنْ ينقضّ، آن لك أن تستيقظ من سبات، أن تقدِّر ما تملك، فلن يشفع لك يومًا أن تذِلَّ وتجبن، واعلم أن هذه الأرض لا تقدِّسُ أحدًا، بل تقدِّس أعمالًا ومواقف تقدِّس كلمة الحق وفعل الأبطال.
 

ربّوا الناشئة على حبّ المسجد الأقصى، ازرعوا فيهم بذرة الإخلاص والحبّ، كما تزرعون البذرة لكي تنبتَ ثمرًا طيِّبًا، علِّموهم أن أجمل الحبّ ما كان أقصاه، فما طواه عنك البعد أخذك إليه لهيبُ الحُرقة والشوق.

في فقه الصراع بين الحق والباطل على مرِّ التاريخ، فإن كفَّة الصراع تميلُ غالبًا لأهل الباطل، فتجدهم أقوى عُدَّة وعتادًا، مالًا وسلاحًا، بشرًا وطاقات، وهي الظروف الأكثر ملاءمة لامتحان أهل الحق ليبلوهم الله حتى يعلم المجاهدين منهم والصابرين، فينتصر أهل الحق إن جاهدوا وصبروا، جاهدوا النفس والهوى، الخوف والجور، الجوع والفقر، وصبروا على كلِّ ضراء ألَّمتْ بهم، حتى يصل بهم البلاء ليُزلزلوا وتبلغ القلوبُ الحناجر.

 

فهنا تعجز المقاييس الدنيوية البشرية أمام عظمة المقاييس الإلهية والسنن الكونية، فيهلكَ من شرب من بئر الدنيا، وينجو ويفوز من لم يطعم من بئرها إلا من اغترف غُرفةً بيده فضعفت نفسه وتهاوتْ، وبعد ذلك يحدث ذلك اللقاء الفاصل بحبكته وعقدته وبنهاية لا يدركها إلا أصحاب اليقين ومن اتبعوا هدي الله: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) نعم؛ إنَّ الله مع الصابرين مع صفوة الصفوة وأصحاب اليقين، آمنوا بقلوبهم ونطقت بذلك ألسنتهم وصدًّقهم العمل.

ربّوا الناشئة على حبّ المسجد الأقصى، ازرعوا فيهم بذرة الإخلاص والحبّ، كما تزرعون البذرة لكي تنبتَ ثمرًا طيِّبًا، علِّموهم أن أجمل الحبّ ما كان أقصاه، فما طواه عنك البعد أخذك إليه لهيبُ الحُرقة والشوق، قولوا لهم: أنّ كلّ حُلُم، كل أمنية، يجب أن ترتبط بالمسجد الأقصى المبارك، ولا تسخروا من أحلامهم مهما كانت صغيرة أو كانوا صغيرين هُمْ، فإنّ أحلامهم تكبُر كما يكبرون، وعيونهم لها تتسع كاتساع الكون الرحبْ، اسألوهم ولو مزاحًا كيف يحبون أن ينصروا المسجد الأقصى وأنا متأكد أنّكم ستلقون الإجابة بابتسامة وثقة وعينان تُحدقان للحلم ويدٌ تمسكُ به وتتشبثّ وكأنَّهما تنطقان: القدسُ أغلى ما نملك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.