شعار قسم مدونات

في متابعة المباريات.. رأفة بأهواء الشباب

مدونات - المبارايات

اعتدنا عند كلِّ مَوْسمٍ رياضيٍّ أن تطالعنا أصوات -ومنها لدعاة وخطباء أجلاء- تستنكر تعلُّق شبابنا بمتابعة المباريات الرياضيَّة، ليصل الأمر في النهاية إلى طرح نظريَّة المؤامرة، التي يهدف من خلالها الغرب إلى إفساد شباب أمَّتنا. وهذا ما نعايشه هذه الأيام مع الدوري الأوروبي الذي ينشغل شبابنا بمتابعة مباريته، وتظهر تفاعلاته على مواقع التواصل الاجتماعي.. يقابلها تسخيف من قبل المعارضين لذوي الاهتمامات الرياضية.
 

أمام هذا الواقع، أودّ أن أطرح بعض التساؤلات:
1- ألا نلاحظ أن بعض الوعّاظ يساهمون في تكريس حالة انفصام في الشخصيَّة، فيتنكّرون في خطابهم الدعويِّ لحاجات النفس البشريَّة، كممارسة الفنون واللهو المباح؟ أليست ممارسة السباحة هواية، كما المطالعة، كما تصفُّح الإنترنت، أو متابعة المباريات الرياضية.. أين المشكلة ما دامت هذه الهوايات لا تخالف ضوابط شرعيَّة؟ ألم يمارس الأحباش هوايتهم باللعب في المسجد، ثمَّ نفَّذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغبة زوجته عائشة -رضي الله عنها- بالسماح لها بالتفرُّج عليهم؟
 

إذا شئنا أن نقيِّد حركة حياتنا اليومية بأحداث أمَّتنا، فنتوجه بالسؤال: متى سلمت أمَّتنا من النوازل والأحداث الجسام، منذ عصر تأسيس الدولة المسلمة وما حدث بعدها من فتنٍ وحروب إلى يومنا هذا؟ هل تتوقَّف الحياة نتيجة هذا؟ بالتأكيد لا.

وأقتبس كلاماً للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب "الإسلام والفن" يقول فيه: "الإسلام دينٌ واقعيّ، يتعامل مع الإنسان كلّه: جسمه وروحه وعقله ووجدانه، ويطالبه أن يغذِّيها جميعاً بما يشبع حاجتها، في حدود الاعتدال".
 

لقد تعلمنا من علمائنا أن المجتمع المسلم ليس فقط "مجتمع عبادةٍ وجدٍّ وعمل"، بل ثمة مساحة واسعة للترفيه والفرح، أو الغناء والطرب.. فلماذا يصرُّ البعض على تقديم صورة المسلم مقطِّب الجبين عابس الوجه، ولماذا يضيّق البعض على الشباب مساحة الترفيه الحلال؟
 

ألا تلاحظون معي أن بعض الوعّاظ يحاولون إخراج أنفسهم من دائرة بشريَّتهم، وكأنَّ الله قد نزَّههم من رغبات النفس في اللهو والترويح عن النفس، ونراهم ينظرون إلى من يفعل ذلك نظرة الطبيب المشفق على حالة مريضه؟ أليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو القائل: "يا حنظلة ساعة وساعة"؟
 

إننا لنأسف حين نسمع البعض يقوم بتصوير لاعبي كرة القدم على أنهم "مجموعة مجانين يركضون خلف طابة".. ترى كيف سيتلقى الشباب الملتزم المهتم بالرياضة هذا الخطاب؟ ألا يساهم بتنفيرهم من الخطاب الديني؟ لقد أعجبني تعليق أحد المثقفين على متابعة المباريات الرياضية حين قال: المجد للأب الذي يجلس مع أبنائه لمتابعة المباراة بسعادة، بدون محاضرات عن ضياع فلسطين.
 

2- من قال إنَّ الرياضة محصورةٌ بألعاب القوى فقط؟ ألا يمكن أن يتعارف أهل بلدٍ على لعبةٍ رياضيَّةٍ معيَّنة، دون أن يكون الهدف منها تقوية الجسد، بل وسيلة ترفيهٍ ومتعة.. ما دامت لا تخالف شرعاً، فما المانع؟
 

3- إذا شئنا أن نقيِّد حركة حياتنا اليومية بأحداث أمَّتنا، فنتوجه بالسؤال: متى سلمت أمَّتنا من النوازل والأحداث الجسام، منذ عصر تأسيس الدولة المسلمة وما حدث بعدها من فتنٍ وحروب إلى يومنا هذا؟ هل تتوقَّف الحياة نتيجة هذا؟ بالتأكيد لا.
 

ليمارس خطباء المساجد والدعاة دور التوعية للشباب، بحيث يحسنون التوازن في الحماسة، ولا يفتحون منها باباً للخصومات، فهي بالنهاية مباراة رياضية.

4- أمَّا أنَّ متابعة مباريات كرة القدم تضيِّع الصلاة وتشغل عن الذِّكر، فدعونا نسأل: يا ترى كم من الوقت سيقضي هؤلاء الشباب بمتابعة المباريات؟ حوالي ساعتين.. بالتأكيد لو لم يتابع المباراة فإنه سيشاهد فيلماً أو يتسمّر على مواقع التواصل الاجتماعي لساعات طويلة؟ أليس كلُّ هذا يشغل عن الذِّكر وقد يؤخِّر الصلاة؟ لماذا نرفض الفكرة إذا حصل تطرُّفٌ في الممارسة؟ ثم.. هل مطلوب من المسلم أن يقضي كل وقته بالذكر؟ ليس على حدّ علمي!
 

5- يزعجنا أحياناً ما يجري من مبالغة الشباب بالتفاعل مع المباريات والتعصب الذي قد يؤدي إلى خصومات أو إزعاج للآخرين عند إطلاق المفرقعات أو أبواق السيارات عند نهاية المباريات، ولا يخفى علينا ما تشهده مواقع التواصل من سجالات ومشاحنات بسبب الاصطفاف لهذا الفريق أو ذاك.. نعم هذا يحصل، وهي ظاهرة سلبية تجب معالجتها، لكننا نقول إذا أساء البعض وبالغ بالتفاعل، فلا يمكن أن أرفض أساس الفكرة، وهي اهتمام الشباب بمتابعة المباريات الرياضية.
 

فليمارس خطباء المساجد والدعاة دور التوعية للشباب، بحيث يحسنون التوازن في الحماسة، ولا يفتحون منها باباً للخصومات، فهي بالنهاية مباراة رياضية. علينا التنبه إلى أن المحاضن التربوية تشهد انصرافاً للشباب عنها، وهذا يحتم على الدعاة والمؤسسات الدعوية أن تولي الشباب اهتماماً أكبر، وتجتهد في توفير وسائل الجذب، ومنها تأمين احتياجاتهم الترفيهية الطبيعية، وليس حرمانهم منها بحجة حال الأمة أو التآمر عليها.. فهذا يدفعهم للنفور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.