شعار قسم مدونات

بين تجربة الحب وحب التجربة

blogs الحب
في عالم تسيطر عليه الشكليات، لا نستطيع إنكار هشاشة العلاقات الإنسانية، خصوصا وأن مواقع "التواصل الإجتماعي" سهلت من إضافة الناس – وإن لم نكن نعرفهم- إلى مساحاتنا الشخصية والنفسية الخاصة، كما سهلت علينا حذفهم من حياتنا، أو بتعبير أقل حدة، كتمهم، ليصير بقاءهم أو عدمه سيان.
إن لم ترتبط للآن، فهي خيبة أنت مصدرها، فالموضوع بسيط يسير وفق ترتيب واحد وإن تغيرت التفاصيل قليلا، فأنت تقابل شخصا ما، تعجب بها من دون أن تعرف شيئا عنها، تخبرها ذلك مع وردة وقطعة شوكولا في يدك اليمنى وابتسامة تعلو شفتيك، تقضيان وقتا ممتعا معا، ثم تأتي العثرات بعد ذلك بالحديث عن مستقبل العلاقة بينكما.

وهكذا، بات من الغريب جدا أن نجد شخصا أحب مرة واحدة لا على سبيل التجربة بل على سبيل الحب الخالص، وتوج حبه هذا بالزواج، لأن الناس كما يقول زيغموند بومان "باتوا يطلقون على تجاربهم الفاشلة في الحب، حبا كاملا"، وبالحديث عن مستقبل العلاقة، يكره البشر أن يتحملوا تبعات رغباتهم، وفي عصر رأسمالي عالمي يسوده اللا إلتزام، لا بأخلاق ولا بقيم ولا بدين، فقط هو المال ما يحكم كل شئ، فقط المال هو الثابت في أي معادلة تكثر فيها المتغيرات، كل ما عدا ذلك نقاط على الحروف لا أكثر، سنجد أن كثيرا من الناس يتنصل ببساطة من تجارب حب كانت مثلا يُحتذى لآخرين.. هذا التنصل يسير وفقا لسردية محفوظة مثل، "مش عاوز أظلمك معايا"، "وتستاهل/ي أحسن مني" وغيرها من السرديات التي لا يطرأ عليها التغير مهما تغير أفراد التجربة (تجربة الحب).

وبما أن التجارب الإنسانية هي ما يشكل خبرة الشخص بالأساس، فإن الزواج لن يكون المحطة الأخيرة في حياة الشخص متعدد العلاقات، ومتعدد التخلي، بل سيسعى جاهدا للفكاك من هذه العلاقة.

قد كان غريبا عليّ حينما رأيتُ أُناسا يستبدلون أحبائهم في شهور، لكن هذا السلوك لم يصبح غريبا بعد، مرة لأنه يتكرر كثيرا ومرة أخرى لأني فهمت الأمر نوعا ما، فمواقع التواصل الإجتماعي، التي هي بالأصل افتراضية، باتت تشكل أجزاءً من شخوصنا الحقيقة، بعد أن كانت مجرد ستار نحتبئ فيها لنظهر أنفسنا الحقيقية بأسماء وصور مستعارة، أو نتجمل بأسمائنا وصورنا الحقيقة ليُشار لناونمثل قدوة للناس، هذا الإسقاط لما هو افتراضي على ما هو واقعي ساهم بدوره في تغيير علاقات الحب والصداقة. فمثلا لو كان يمكنك حظر الشخص فيما هو افتراضي، ماذا يمنعك من حظره وإبعاده فيما هو واقعي، وإن كان هذا الشخص يحمل ونحن تجربة مميزة، وأياما جميلة.

يستطيع الإنسان أن يخبئ خلف الكلمات ما لا يستطيع أن يخبأه وجها لوجه، يستطيع بالكلمات جلب حبيب، أو تنفيره، وإن لم يره، بات التخلي هو الأصل والبقاء في العلاقة أصبح شيئا غريبا، وبات من العسير على اثنين التمسك والتسامي فوق الخلافات، لذا لا أستبعد أن يغيب التفاهم يوما ما عن عالم البشر، لستُ أبالغ، لأن خيار الإقصاء أسهل كثيرا من خيار التفاهم كإجراء لحظي، لكنه أصعب على المدى البعيد، وبفقدان التفاهم ستفقد الإنسانية صفة أساسية توارثها الناس، ألا وهي القدرة على سماع الآخر والإحساس به، لا العبور عليه، لا تجاهله.

إن الانتقال من علاقة لأخرى لا ينبغي أن يعزز في النفس شعورا بالقوة، بل هذا هو العجز، العجز عن المواصلة مع أناس أشهدنا أنفسنا والناس أننا نحبهم، تصالحنا مع أنفسنا ومع أخطائهم ذات يوم، لكننا اخترنا أن نتركهم، لأن التخلي أسهل. والعجز عن إعطاء أنفسنا ومن نحب، فرصة للبقاء، للإعتذار، للتجاوز عما كان، إن لم نستطع فهم هذا، سيظل الحب لعبة بأيدينا لا نمل من تكرارها إذا توهمنا أننا فشلنا فيها.

وبما أن التجارب الإنسانية هي ما يشكل خبرة الشخص بالأساس، فإن الزواج لن يكون المحطة الأخيرة في حياة الشخص متعدد العلاقات، ومتعدد التخلي هذا، بل سيسعى جاهدا للفكاك من هذه العلاقة، لأنها ستفتقر كسابقاتها للتفاهم، لكنها ستكون أعقد، لأننا لن نكون حينها شخصين فقط يفتقران للتفاهم ومستعدان للتخلي حينها، كل عن الآخر، بل سيكون هناك أبناء أيضا، وما أدراك ماذا يعني وجود أبناء لأبوين كل منهما في طريق لا يمكن أن تحمله مع الآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.