شعار قسم مدونات

قلب ناضج

blogs-صلاة الفجر
كانت أمي تُلِح عليَّ قبل كل رحلة أن أحمل أغراضًا وزادًا أكثر، وكنت دائمًا أكسُل وأتخفف، ثم ينتهي ما معي وأكاد أسأل أصحابي؛ لولا الحياء والإباء! ويبدو أنه طبع وُلِد ونشأ وشب معي، أتخفف من الزاد، ثم تلدغني الحاجة، وأعض في النهاية أصابع الندم!

طريق الحياة أطول، ونحن للزاد فيه أحوج، واستعدادنا له أقل، وسؤالنا الناس فيه أمَرُّ وأقتل. لا يتبادر لذهنك تلك الصورة النمطية لفقير رث الثوب يسأل الناس باسطًا كفه فيُعطَى مرة ويُمنَع أخرى، بل أعني فقرًا أعمق من هذا وإن كان أخفى، فقرَ القلوب لا الجيوب!

كنت أتعجب من حال العبّاد الذين ينقطعون عن الناس، ويزهدون في الدنيا، حتى أدركت أن القلب إن كُبَر فيه حب طغى على غيره، وإن امتلأ بشيء فرغ مما سواه!

القلوب تمتلئ فتغنَى وتستغنِي، أو تفرُغ فتفتقر وتعوز، كم نرى أناسًا – نكون منهم أحيانًا – فقراء، يتكففون المشاعر، يتسولون الحب والمواساة والتعاطف والاهتمام والإعجاب في كل نادٍ وسبيل، ينشغلون حياتَهم في البحث عن المشاعر، ثم بالوصول إليها، ثم بفقدها! ينشغلون بالتزود – لقلوبهم – عن الطريق نفسه، حتى تنقلب الوسيلة والبلغة غاية!

افتقروا لأن قلوبهم لم تمتلئ بشيء! لم تمتلئ – كما ينبغي – بحب الله والشوق إليه والانشغال به عمن دونه، لم تمتلئ – مثلًا – بعلم يشغف قلوبهم وأحلامهم ويستأثر بأوقاتهم، ولم تمتلئ بقضية حياة لها يعمل ويأمل ويبذل، فلما فرغت قلوبنا امتلأت بكل حب آت؛ حتى تضلعت به، وتعلقت به حزنًا وسعادة، وموتًا وحياة!

يقولون: "من امتلك غذاءه امتلك قراره"، والقلب إن امتلك زاده، وكان نابعًا منه أمِن واستقر واستغنى، أما إن كان زاده عند شخص أو شيء فهو فقير وإن اغتنى، ضعيف وإن قوي، ذلك أنه يظل مهددًا بالمنع والحرمان وإن أُعطَى، ويظل سيف الفراق مسلطًا على رقبته وإن وُصِل وأنِس! ملّك حياته وأعطى مفتاح سعادته لإنسان قد يخون أو يتغير أو يزهد ويقلَى، أو كما نقول: "وضع حياته على كف عفريت"!

وقِف معي معجبًا متعجبًا من ابن تيمية الذي كان يمتلك سعادته لا يعوز شيئًا ولا إنسانًا ولا مكانًا ولا حالًا من خارجه، يقول: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ إن رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة"

يقولون: "من امتلك غذاءه امتلك قراره"، والقلب إن امتلك زاده، وكان نابعًا منه أمِن واستقر واستغنى، أما إن كان زاده عند شخص أو شيء فهو فقير وإن اغتنى.

كنت أتعجب من حال العبّاد الذين ينقطعون عن الناس، ويزهدون في الدنيا، حتى أدركت أن القلب إن كُبَر فيه حب طغى على غيره، وإن امتلأ بشيء فرغ مما سواه! والإسلام لم يأمرنا بالانقطاع عن الحياة، وإنما أمرنا فقط ألا يكبر حب في قلوبنا عن حب الله، قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله ..) البقرة 165

أعاتب هنا من بحث عن السعادة في كل مكان إلا قلبه، ومن فقد سلطانه على قلبه فتسلط عليه كل شيء، أعاتب من تبعثرت حياته خلف رياح حبيب راحل، ومن توقفت عقارب ساعته عند مفقود فظل حبيس ذكراه، أعاتب من بنى صرح حياته على ماء، ومن فرُغ قلبه فخفَّ وطار مع كل هواء، ولو امتلأ وثقل ما شغل منه أيُّ حبٍ كلَّ ذلك الحيز حين حلوله، ولا ترك هذا الدمار بعد رحيله!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.