شعار قسم مدونات

هل أنتِ حقًّا أمّ؟!

مدونات، الأم

من السهلِ جدًّا أن تنجبي أولادًا، إذا شاء اللهُ لكِ ذلك، ومن السهلِ أيضًا أن تتخطّي فكرةَ كونكِ ستمرّين بعذاباتٍ كثيرة في رحلةِ الوصول إلى دنيا الأمومة؛ إذ أنّكِ ستمرّين بمتاعبِ الحمل وآلامِ الولادة وسهرِ الليالي سواء شئتِ ذلك أم أبيتِ، مع أنّ الأمر قد لا يخلو من بعض الاستثناءات!..

فمتاعبُ الحمل قد تستطيعين تخطّيها إن أنتِ استأجرتِ خادمةً تعينكِ في أمورِ المنزل، أو إن حالفك الحظّ وكان هناك من يعينكِ من الأقارب في فترة الوحم المزعج.. وآلام الولادة قد تستطيعين تخفيفها أو حتى اختزالها كليًّا، والفضل عائدٌ لإبرة التخدير التي باتت سائدةً سوادَ الولاداتِ في عصرنا المرقّع هذا.. وسهر الليالي قد تستطيعين أيضًا تخفيفه إن أنتِ قمتِ بالاستعانة بصديق -أعني صديقة- مع حذف خيار الاستعانة بالأزواج لأنّهم غالبًا لا يفعلون ذلك (أعني أنّ الرجالَ غالبًا لا يقدرون على تحمّلِ متاعب السهر ورعاية الأطفال فهم لم يُخلَقوا من أجلِ هذا).. لا عليكِ، تستطيعين تخطّي هذا الأمر أيضًا إن حالفكِ الحظّ وكنتِ امرأةً صلبةً قاسية لا يرفّ لها رمشٌ ولا يقصمها قاصم!

أن تكوني أمًّا يعني أن تذهبي للولادة وأنت مستعدّةٌ لكلِّ شيء.. لكلّ طلقةٍ ولكلِّ صرخة -حبّذا لو تكتمينها لأنّها ستزعج صغيركِ

فمن أنتِ إذا استوقفتكِ دموعُ طفلٍ صغيرٍ طريّ الجسد ناعم الأوصال يبكي ولا تفهمين سبب بكائه؟ من أنتِ حتّى تفكّري أصلًا بتحليل سبب بكاء هذا المتطفّل الصغير الذي أتى ليسرق منكِ مذاقَ النومِ وينسيكِ طعم الراحة؟ من أنتِ حتّى تتعبي نفسكِ وتقحمي رأسكِ في دوّامة التفكير والتعجّب وتغرقي في بحارٍ من الحيرة والتخبّط والضياع؟ هل حقًّا يعني لكِ ذلك كلّه أم أنّكِ لن تعيري الأمر ذاك الاهتمام البالغ، وستستعملين أقصر الطرق وأكثرها سهولةً لكي تتخلّصي من مرحلة التعب هذه بأقلّ الخسائر الممكنة؟ هل أنت حقًّا أمّ؟ فإن كنتِ حقًّا أمًّا بكلِّ ما تحمله الكلمةُ من معانٍ وما تتضمّنهُ من تفاسير، لكنتِ سكبتِ الدمَ من عروقكِ سكبًا لو تطلّب الأمر منكِ ذلك، دون أن تشتكي أو تشعري أنّكِ قد ضحّيت تضحيةً لا مثيل لها.. نعم، فأنتِ اليوم صرتِ أمًّا، فهل تعلمين ماذا يعني أن تكوني أمًّا؟!

أن تكوني أمًّا يعني أن تتحمّلي مشاقّ الحمل ومتاعبه، ليس فقط لأنّها أمرٌ لا بدّ منه، بل لأنّ هذه الآلام هي مرآتك الحلوة التي تلمحين فيها وجه وليدك، وعينيه البرّاقتين، ويديه الصغيرتين الناعمتين، وقدميه المضحكتين اللتين كنت تحلمين طيلة التسعة أشهر بتقبيلهما.. أن تكوني أمًّا يعني أن تذهبي للولادة وأنت مستعدّةٌ لكلِّ شيء.. لكلّ طلقةٍ ولكلِّ صرخة -حبّذا لو تكتمينها لأنّها ستزعج صغيركِ- لكلّ ألمٍ لكِ أن تتخيّليه أو لا تتخيّليه، لكِ أن تسمعي عنه أو لا تسمعي عنه، ففي كلّ الحالات هو سواءٌ بالنسبة لكِ، لأنّه الطريق الذي سيوصلكِ إلى برِّ الأمومة!

أن تكوني أمًّا يعني باختصار أن تذهبي للولادةِ وأنتِ على أتمِّ الاستعداد للموتِ لأجلِ وجود احتمالٍ واحدٍ بالمئةِ فقط لرؤيةِ وجهِ وليدك أو ملامسة خدّه لخدِّكِ ولو لمرّةٍ قبل رحيلك، مع أنّك ستتمنّين حتمًا أن يكون هذا آخر الاحتمالات، وسترجين الله كثيرًا أن لا يقدّره لكِ، ليس طمعًا بالحياة، بل لأنّكِ صرتِ أمًّا، ولأنّكِ لا تريدين أن يحيا وليدك حياتهُ وأنتٍ بعيدة عنه، لا تحيطينه بكلِّ العناية والرعاية، فأنتِ تعلمين تمامًا أنّه ما من أحدٍ، ما من أحدٍ أبدًا، حتّى أمّكِ نفسها، قادرٌ على إعطائه ذاك الحنان المقطّر الذي تستطيعين أنت وحدكِ منحَهُ إيّاه!

أن تكوني أمًّا يعني أن تكوني مستعدّةً لخوض غمارِ السهرِ الدائم، وقولها بكلِّ سرورٍ وإقدام (وداعًا أيّها النوم)، وعن سابق إصرارٍ وترصّد.. فما أجملها من سويعاتٍ ستمضي حاملةً معها أجملَ ذكرى، ذكرى دموعكِ التي اختلطت بدمعاتِ طفلكِ الغضِّ الطريّ الذي ما اكتفى بعد من وصالكِ وهو في أحشائكِ الدافئة، فكيف تتركينه وتنامين في فراشكِ هكذا بكلِّ بساطة دون أدنى سهرٍ تبذلين فيه بعضًا من دفئكِ الذي كنت تكنزينه له قبل أن يأتي إلى عالمٍ تحدُّه البرودةُ من كلِّ الاتّجاهات؟! هيّا ابذلي وتفاني، فأنتِ اليوم صرتِ أمًّا، والأمُّ لم تنل هذه الدرجات العُلا عند الله من شيٍء بسيط، بل لأجل هذا كلّه، ولأجل كلِّ التعب والسهر والأحزان والآلام صُيّرت الجنّة لها تحتَ الأقدام! 

أن تكوني أمًّا يعني أن تعتصري نفسكِ وجهدكِ، لتبحثي عن أفضل الطرق وأمثلها، لتعطي رضيعكِ -قرّة عينك- أفضل رعايةٍ وتقدّمي لهُ أفضل الغذاء -لبنكِ- ولا يكلّفُ اللهُ نفسًا إلاّ وسعها، ووسعكِ قد يتّسعُ إن أنتِ توكّلتِ على الله ولم تستمعي لنصائح الأمّهات المهملات اللواتي سيردّدن لكِ دومًا نصائح لا تسمنُ ولا تغني من جوع، درءًا للتعب واختصارًا للوقت.. فمنهنّ من ستنصحكِ بإعطاء طفلكِ (المصّاصة) لأنّه سيغفو عليها بشكلٍ أسرع، ومنهنّ من ستنصحكِ بإسنادهِ بالحليب الصناعيّ، ومنهنّ من ستنتقدكِ لأنّكِ تتركين طفلكِ ينامُ وهو يرضع وهذا الأمر متعبٌ للغاية على حدّ رأيهنّ!..

أن تكوني أمًّا، يعني أن تتشاركي الفراش مع رضيعكِ، لكي يشتمَّ عبيرَكِ المحبّبِ إلى روحه وقلبه وأنت نائمةً طوال الليل قربه

الأعجب من هذا كلّه أنّهن سينبذنكِ، وستكونين أنتِ محطّ الدهشةِ والغرابةِ والشفقة، فأنتِ تقومين بإنهاك نفسكِ دون أدنى طائل، بحسب اعتقادهنّ، فلا تعيريهنّ أدنى اهتمام، وسيري في طريقكِ، فأنتِ اليوم أمّ، وهنا بالذات تُعرف الأمهات!.. نعم هنا، فما نفع أمٍّ تخبّئُ شهدها عن رضيعها وتستبدلُه بلبنٍ ميت مصنّع و(مصّاصةٍ) ملوّثة لا تغني عن العطف شيئا!..

أن تكوني أمًّا يعني أن تتركي الفرصةَ لطفلكِ ليغفو على صدركِ وينامُ وهو مشبعٌ بالحنان والدفء الذي لن ينساهُ يومًا، ولو أنّهُ أمرٌ مرهقٌ في البداية، لكنّكِ ستعتادين عليه وتعشقينه، لأنّه الشرط الأشدّ ضرورةً لتكوني أمًّا حقيقيّة! أن تكوني أمًّا يعني أن لا تستمعي لهم ولنصائحهم القاسية الفاسدة، وأن تفسدي طفلكِ قدر المستطاع بحملانه معكِ أينما ذهبتِ، فليتعوّد على الحملان رغمًا عن نصائحهم، فلتفسديه ولا تبالي، صدّقيني، سيصيرُ كالحمَل الوديع.. دعكِ منهم، فأنتِ اليوم صرتِ أمًّا!

أن تكوني أمًّا، يعني أن تتشاركي الفراش مع رضيعكِ، لكي يشتمَّ عبيرَكِ المحبّبِ إلى روحه وقلبه وأنت نائمةً طوال الليل قربه، فيبسمُ حين يسترقُ إليكِ النظرَ بعينيهِ النصف مغمضتَيْن، ويطمئنُّ أنّكِ لن تتخلّي عنهُ أبدًا ويغمرهُ الأمان..

أن تكوني أمًّا يعني أن تستعدّي للمزيد والمزيد من المتاعب والأحمال والهموم والمشاكل بكلِّ رحابةِ صدر، وأن تبقي بجوار أولادك وتسنديهم وتسمعي شكواهم دون أن يتكلّموا ما قدّر اللهُ لكِ أن تعيشي قربهم، وحتّى يصيروا بدورهم هم أيضًا آباءً وأمّهاتٍ حقيقيّين، ولتعملي على تلقينِهم عمليًّا معنى الأبوّةَ والأمومة.

أن تكوني أمًّا يعني أن تفعلي هذا كلَّه بكاملِ الرضا، فغيرك قد حُرِمْنَ نعمة الإنجاب، مع أنّهنَّ ما حُرِمنَ روحَ الأمومة، فما بالكِ أنتِ التي مُنِحتها تشحّين فيها وتبخلين وكأنّها ملكٌ لكِ وحدكِ؟ هذي الأمومة منحةٌ ربّانيّةٌ قد مُنحتِها، لا لتتملّكيها وحدكِ أو تفرّطي فيها متى أردتِ، فهيَ لطفلِكِ قبل أن تكونَ لكِ، فكوني أمًّا حقيقيّة، كي يكون الطفلُ لكِ فيما بعد نعمَ الابن، وابذلي الغالي دونَ الرخيص، وابذري أطيبَ البذور، فغدًا إن شاء الله ستجنين ثمارَ ما بذرت، لأنّكِ كنتِ ومازلتِ وستبقين دومًا أفضلَ أمّ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.