شعار قسم مدونات

حين تتحول نظرية المؤامرة إلى أخطر مؤامرة

مدونات - المؤامرة

لقد أصبحت نظرية المؤامرة في ذاتها مؤامرة أخطر لأنها آفة زادت من ركود العقل العربي في هذا العصر، لا أنكر وجود مخططات ومؤامرات شيطانية تطبخ كل يوم في مراكز القرار وفي مؤسسات التحكم بالعالم، لكن فلنحذر من تهويلها ومن المغالاة فيها كي لا نقع في بئر التنظير المظلم وكي لا نتعلق بأوحال الوهم القاتل الذي يزيدنا بعدا عن واقعنا المفروض علينا إصلاحه، والواجب علينا الارتقاء به نحو المجد والحضارة. لقد أصبح الحديث عن المؤامرات علكة في فم كل فاشل وعلى لسان كل متخاذل وكل مخذل وكل رويبضة، فبدلا من أن يزيدنا التفطن لقواعد التحكم في العالم إصرارا على العمل وعزيمة لتغيير الواقع زادنا إصرارا على بيع الأحلام واللعب بمضمون الكلام وعزيمة للبكاء على أطلال الماضي.
 

لا نظن أنفسنا فاهمين وعالمين وأذكى من غيرنا بمجرد قراءة كتب أو مشاهدة فلم وثائقي أو الاستماع لأغنية راب تتحدث عن المؤامرة، لن نكون فاهمين إلا إذا عملنا بما علمنا، فلن يتغير الواقع إلا إذا اقترن العلم بالعمل، فأخطر مؤامرة تكمن في تحولنا إلى آلات تتكلم أكثر مما تعمل.
 

لا أخطر من أن يلتجأ المرء لغيره كي يفكر عنه ويملي عليه ما فهم وما ظنه أنه صوابا، فمن هنا تأتي التبعية الفكرية، ويتحول العربي إلى ناطق رسمي باسم الإفرنجي أو يحمل لواء المجوسي أو يمثل طابورا خامساً للمغولي.

إن أزمتنا لا تقتصر فقط على شعوب نائمة غارقة في أوحال الاستهلاك اليومي ومنشغلة عن قضاياها المصيرية، فقد نسينا أن حتى القلة الواعية بدقة هذه المرحلة هي الأخرى مستسلمة وخاضعة للوضع الخانق، غارقة في بحر التنظير، عاجزة عن تحويل الفكرة إلى واقع، منغلقة على نفسها وغير قادرة على الالتحام والتأقلم مع جماهير شعبها، لقد جعلت النخبة السياسية في بلادنا من نظرية المؤامرة وسيلة للتجاذب الإيديولوجي والتقاتل الحزبي، فإذا حقق طرف ما إنجازا أو نصرا شكك فيه الطرف الآخر والتف عليه بشعارات ومقالات وخطب فصيحة تفتن المتلقي البسيط الذي يمثل السواد الأعظم في أوطاننا، وهنا علينا أن نتساءل لماذا تلقى الخطابات المبنية على نظرية المؤامرة رواجا عند العامة؟
 

حسب رأيي الإجابة واضحة، فشعوبنا اليوم تغلب عليها البساطة في التفكير، غير قادرة على تفكيك الوقائع والأحداث المعقدة التي تعيشها الأمة، يصعب عليها تمييز عدوها من حليفها بل يصعب عليها حتى إدراك ماهية هويتها في خضم ما تتعرض له من غزو فكري رهيب، فقد تكالبت عليها الأمم وتداعت عليها كتداعي الأكلة إلى قصعتها ولا تشكو الأمة من قلة لكنها غثاء كغثاء السيل، فهي لا تهتم بالتفاصيل وعاجزة عن تحليل وفهم ما وراء السطور وغير قادرة على إدراك مآلات الأمور وبالتالي هي تلجأ لمن يفكر بدلا عنها فتجد في الكتاب الذين يكتبون بمنطق المؤامرة مستقرا وملاذا من الواقع السياسي المعقد بمجرياته المتداخلة التي يصعب على المتلقي البسيط تفكيكها بغية فحصها وتشخيصها.
 

فهؤلاء الكتاب أو الخطباء يستعملون مهارات وتقنيات تواصلية شبيهة بالخيال العلمي تضع القارئ أو السامع في موضع الانبهار فيشعر أنه أدرك ما لم يدركه غيره وفقه ما كان خفيا وبلغ من الفهم والعلم مرتبة عالية في وقت وجيز جدا قد يكون مقداره الزمني معادلا لوقت قراءة مقال أو مشاهدة مقطع مصور منشور على شبكات التواصل الاجتماعي، ولا أخطر من أن يلتجأ المرء لغيره كي يفكر عنه ويملي عليه ما فهم وما ظنه أنه صوابا، فمن هنا تأتي التبعية الفكرية، ويتحول العربي إلى ناطق رسمي باسم الإفرنجي أو يحمل لواء المجوسي أو يمثل طابورا خامساً للمغولي، وهكذا تحول العربي إلى مفعول به بدلا من فاعل في أوطان تكثر فيها ثرثرة الألسنة وتقل فيها فاعلية العقول والجوارح وهذا ما يجعل منا فريسة سهلة امام هجمات إمبريالية متعددة وأمام انقلابات سياسية وفكرية متوحشة، فكيف نجحت نظرية المؤامرة في احتواء الهزات والثورات الشعبية؟
 

لقد خنقتنا الأنظمة البائدة وحاصرتنا وأعادوا الشعوب لبيت الطاعة بالحديد والنار تجنبا للمؤامرة، وأي مؤامرة أخطر من هذه المؤامرة!

لقد كان للشعب التونسي إرادة قوية في إسقاط النظام، لم تقدر الآلة القمعية على طمس هذه الهبة الشعبية وما كانت آليات النظام إلا ريشة أمام عاصفة شعب غاضب سلاحه الحق ويقينه النصر المحتم، لم تكن هذه الهبة إلا نتاجا لتراكمات ونضالات ومخاضات عسيرة ولدت في خضمها هذه الثورة التي هزت كيان الطغيان في تونس ثم المنطقة بأكملها، من الصعب أن تسقط نظاما تغول أكثر من خمسين سنة، نصف قرن من القمع والاحتقار والحرمان واحتكار لشتى مجالات الحياة العامة وحتى الخاصة.

فرأى أزلام الأنظمة البائدة في نظرية المؤامرة مخرجا وحلا ناجعا لتنويم هذه الحشود الثائرة وإخماد هذه الثورات المشتعلة، تجندت المنابر الإعلامية ودست سمومها. فقد تبنت الثورات ظاهرا وحاربتها باطنا، أقنعوا الجماهير أنهم ضحية مؤامرة صهيونية لضرب أمنهم وتقسيم بلدانهم، خوفوهم من الثوريين عموما ومن الإسلاميين خصوصا، استغلوا الانفلاتات الأمنية كي يذكروهم بنعمة الأمن في زمن الديكتاتور، وأنسوهم غياهب السجون وجحيم التعذيب وانتهاكات الأعراض والعمالة للخارج ونهب الشعوب والفساد الذي أهلك الحرث والنسل..

والنتيجة سبسي في تونس وسيسي في مصر وحفتر في ليبيا وحوثي في اليمن والأمريكي والروسي والإيراني يتخاصمون على تقسيم الكعكة السورية، والأدهى وأمر براءة مبارك وهو ما يعني إدانة للشعب المصري الذي ثار وأراد الخروج من قفص الطغيان، بل إنها إدانة وتحريم لكل شعب ثار أو يفكر في الثورة. لقد خنقونا وحاصرونا وأعادوا هذه الشعوب لبيت الطاعة بالحديد والنار تجنبا للمؤامرة، وأي مؤامرة أخطر من هذه المؤامرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.