شعار قسم مدونات

عندما انهار كل شيء

blogs انهيار

١أفلام إباحية:

القاهرة ٢٠١٢

"أحمد" طالب في الصف الثاني الإعدادي، عمره اثنا عشر عاماً. يكاد الجميع يتفق على أنه ذكي، سريع الفهم، ويجيد التحدث والإقناع، ولكنه كذلك مشاكس ويسبب إزعاجاً لوالديه بسبب كثرة اعتراضه على أوامرهم. فمثلاً يأمره والده "إبراهيم" بكثرة الدراسة بعد حصوله على درجات متدنية: "أنا لما كنت في سنك كنت أحصل على الدرجات النهائية". فيسأله أحمد عن جدوى الدراسة وحفظ الكثير من الأمور التي لا معنى لها. يضغط والده على أعصابه حتى لا ينفجر في وجهه، ويحاول أن يجاريه في النقاش، لكن أسئلة أحمد تبدو أكثر منطقية من إجابات والده. ولذلك ينتهي النقاش غالباً بصفعة على وجه الولد وإهانة مباشرة: "بطل لماضة بقى، ده انت عيل مش متربي. انت مش فاهم مصلحتك فين".

 

ذات يوم استدعت المدرسة ابراهيم لأمر هام. ذهب فوجد مديرة المدرسة تتحدث معه عن خطاب عاطفي كتبه أحمد لزميلته في نفس الصف. صمت إبراهيم ونظر شذراً لأحمد الذي نظر في الأرض خجلاً، ثم اعتذر للمدرسة عن سوء أخلاق ابنه وتعهد بأنه سيتولى إصلاح المسألة.

 

كان أول ما نال أحمد بمجرد دخوله البيت هو دفعة شديدة من ظهره أسقطته أرضاً، ثم انهالت عليه الصفعات. لم يعط ابراهيم فرصة لابنه أن يوضح له لماذا فعل هذا؟ وبعد عاصفة الغضب، قال ابراهيم بصوت هادئ وهو يحتضن ابنه الذي لم يتوقف عن البكاء: "أنا باعمل كدة عشان مصلحتك. عشان تبقى إنسان محترم". كل هذا عادي وطبيعي ويحدث في العديد من البيوت المصرية. لكن القصة ستختلف تماماً في السطور القادمة.

 

غرفة المعيشة في منزلهم البسيط بها تلفزيون في منتصف الحائط، وجهاز كمبيوتر "ديسكتوب" بجانبه في ركن الغرفة. بينما يقع باب الغرفة في مواجهة الكمبيوتر، بحيث يتمكن الوالدين – كما قال إبراهيم أكثر من مرة – من مراقبة ماذا يشاهد ابنهما عبر الكمبيوتر حتى من خارج غرفة المعيشة، فلا يستطيع أن يشاهد أية أفلام أو لقطات إباحية. ولهذا كان ابراهيم يركز دائماً على ترك باب هذه الغرفة مفتوحاً.

 

لكن في إحدى الليالي استيقظ أحمد قلقاً في منتصف الليل ثم قام ليشرب كوب ماء. وبينما يسير باتجاه المطبخ سمع أصواتاً غريبة تأتي من غرفة المعيشة التي كانت مضاءة وبابها موارب. اقترب أحمد فإذا بالأصوات تتضح. هذه أصوات تأوهات صادرة من امرأة. ارتعش جسد أحمد وهو يتسلل ليحاول أن يرى ماذا يحدث. وقف خلف الباب ونظر من الجزء الغير موارب فإذا بوالده يشاهد فيلماً إباحياً على جهاز الكمبيوتر.

 

رغم الصدمة، بقيّ أحمد في مكانه لمدة تصل إلى خمسة دقائق ليراقب كل شيء. المشاهد الجنسية ووالده وهو يتابعها. كان يعلم أن هذه المشاهد ستبقى محفورة في ذهنه للأبد. لم يستطع ابراهيم أن يفهم طوال السنوات القادمة لماذا تغير ابنه؟ لماذا صار يعامله بوجه جامد وأحياناً ساخر. لماذا لم يعد يرى في عينيه سوى هذه النظرة من اللامبالاة.

 

بعد سنوات شاهد أحمد مع والده فيلم "بين القصرين".  وقبيل منتصف الفيلم جاء مشهد اكتشاف "ياسين عبد الجواد" أن والده "السيد أحمد عبد الجواد" مدعي الشرف والكرامة، يمسك الدُف للراقصات ويرقص معهن، فقال مصدوماً "يا ابن الكلب يا بابا، هو انت كدة؟". عندها ضحك أحمد بشدة، واستمر في الضحك بشكل مبالغ فيه، حتى أن والده سأله مندهشاً عن السبب فأجاب: "يا ابن الكلب يا بابا" واستمر في الضحك!

 

٢دُفعة

التحق صلاح بالجيش وكله أمل في أن يستفيد منه. لكن يبدو أن الواقع كان مختلفاً تماماً. لم يتدرب على الرماية غير مرة واحدة، ولم يتدرب على استراتيجيات القتال ولا على أية أسلحة أخرى نهائياً. في النهار يمسح الحمامات ويجمع أوراق الشجر

الإسكندرية ٢٠١١

صلاح، شاب درس الهندسة، درس الهندسة وتخرج واستعد ليخدم إجبارياً كمجند لمدة سنة في الجيش المصري. لم يسمع صلاح كثيراً عن الحياة داخل الجيش المصري. كل ثقافته عن الجيش كانت من خلال بعض الأفلام مثل "إسماعيل يس في الجيش" و"عبود على الحدود"، التي علمته أن الجيش المصري مصنع الرجال، وأنك ستتعلم هناك الصبر والتحمل والعزيمة وحب الوطن.

 

أثناء دراسته في جامعة الإسكندرية، ركب صلاح ذات يوم مع صديقيه تاكسي من أمام الكلية وحتى منطقة سيدي جابر، وذلك للذهاب إلى أحد نوادي البلاي ستاشن. في الطريق دار بينهم حديث عن المستقبل وماذا سيفعلون. قال صلاح ببراءة: "أنا معنديش مانع أدخل الجيش عشان أتعلم أحارب، هاعتبرها دورة تدريبية في قوة القتال وقوة التحمل والصبر. ولو لم يتم اختياري، ممكن أتطوع والله".

 

عندها ضغط سائق التاكسي فرامل سيارته بعنف، فظنوا أن حادثاً قد وقع، لكن السائق الأربعيني التفت ونظر لصلاح وقال: "إنت عبيط يا كابتن؟". لم يفهم صلاح سر انفعال السائق، وبينما تعالت أبواق السيارات المعترضة على توقف التاكسي المفاجئ، قال السائق: "جيش إيه يا بني اللي بيعمل رجالة بس؟". لكن صلاح انفعل قائلاً: "الجيش المصري خير أجناد الأرض زي ما النبي قال، ومصر جيشها أقوى جيش في المنطقة".

 

التحق صلاح بالجيش وكله أمل في أن يستفيد منه. لكن يبدو أن الواقع كان مختلفاً تماماً. لم يتدرب على الرماية غير مرة واحدة، ولم يتدرب على استراتيجيات القتال ولا على أية أسلحة أخرى نهائياً. في النهار يمسح الحمامات ويجمع أوراق الشجر، وفي الليل يقف حراسة على سور الكتيبة بسلاح دون ذخيرة. هذا هو كل ما فعله في جيشه. وكان عليه أن ينافق ضابط الصف والضابط والعسكري الأقدم منه الذي يفوقه رتبه، وأن يتحمل إهاناتهم الدنيئة ونفسياتهم المريضة وتطاولهم باليد عليه أحياناً حتى يمر جيشه بسلام".

 

شاهد صلاح بنفسه العساكر وهي تخدم الضباط وزوجات الضباط وأبناء الضباط. وسمع عن أمنيات العساكر بالحصول على واسطة للخدمة في أحد النوادي أو الفنادق، أو قاعات الأفراح حيث الأعمال كلها مدنية والراحة أكبر. ومع الليل، يستمع صلاح لمكالمات ضباط الصف الجنسية في الهاتف مع بعض النساء، ويسمع من وقت لآخر حكايات عن مثلية بعض الضباط وكيف أنهم يطلبون من بعض العساكر النوم معهم. وذات يوم عزم عليه أحد العساكر بسيجارة حشيش فرفض، فناله من السخرية ما ناله. انهارت صورة الجيش في ذهن صلاح، وصار ما يتمناه ليس فقط أن يخرج من هذا المكان بأسرع وقت، بل أن يخرج من مصر كلها. هناك شيء ما انكسر بداخله ولم يعد من الممكن إصلاحه.

 

٣- سكن

اسطنبول ٢٠١٦

مصعب شاب مصري عمره ثمانية وعشرين عاماً، عضو في جماعة الإخوان المسلمين. شارك في المظاهرات المناهضة للانقلاب العسكري، وتم تلفيق قضية له، واستطاع الهرب إلى تركيا، حيث وفرت له الجماعة سكناً عبارة عن شقة غرفتين وصالة يشاركها مع سبعة شباب آخرين.

 

في أحد المنازل في تركيا، اجتمع شمل أحد قيادات الإخوان المسلمين المصريين مع مجموعة من شباب الجماعة كان من بينهم مصعب. كان النقاش محتداً وعنيفاً بعد ما اعتبره الشباب فشلاً ذريعاً في إدارة ملف ما بعد الانقلاب، بينما كان القيادي يحاول الصمود أمام سيل الأسئلة المنطقية التي لا رد عليها. ما زاد الطين بلة، أن القيادي فلتت من لسانه جملة كانت ذات تأثير كبير على نفوس الشباب قبل سنوات قليلة، لكنها الآن لم يعد لها أي تأثير، بل وتتسبب في تأثير عكسي كبير. كانت الجملة التي أفلتت من لسانه هي "القيادات اللي فوق مطلعة وعارفه كويس هي بتعمل إيه، وإحنا محتاجين نثق فيهم شوية". ما أن قيلت هذه الجملة حتى فقد مصعب أعصابه تماماً. وخرجت من فمه عبارات قاسية سيندم عليها لاحقاً.

 

وقف مصعب ووجهه متشنج وعروقه قد ظهرت واضحة في وجهه الأحمر المحتقن، وقال "أنتم مجموعة من القيادات الفشلة الخايبة. سمعنا كلامكم ومشينا وراءكم ونزلنا أمام الرصاص بصدورنا العارية، وأصحابنا قُتلوا وأهاليهم ماتوا بحسرتهم عليهم، واعتقلنا وشردنا وتركنا دراستنا وهربنا، وبعدين لسه بتقول لنا أن شوية العواجيز المخرفين دول ناس فاهمة ومطلعة. يا أخي ………" ثم أكمل مصعب بوصلة شتم من الطراز الرفيع. هو نفسه لا يعرف متى تعلم كل هذه الشتائم القبيحة.

 

جمع مصعب أغراضه، ورحل في هدوء. كان يعلم أن الجماعة قد انكسرت في نظره تماماً، ولا يمكن أن يشعر نحوها بنفس المشاعر التي كان يشعر بها من قبل

فشلت محاولات التهدئة وانصرف مصعب غاضباً من المنزل. هام في شوارع اسطنبول يفكر بمرارة في سنوات العمر التي ضاعت. زلزال هائل يعصف به. حياته كلها في هذه الجماعة؛ أصدقاؤه، هواياته، أهله، شيوخه، بل وحتى الفتاة التي يحبها. راوده شعور أن حياته كلها عبث، وأن سنوات عمره ضاعت على مشروع فاشل بلا أي معنى.

 

كان مصعب قد بدأ يقتنع في الفترة الأخيرة بما يردده البعض على موقع فيسبوك حول ضعف حديث النبي عن عودة الخلافة الراشدة، وأن آخر الحديث "ثم تعود خلافة راشدة" هي جملة زائدة عليه. وبدأ كذلك يقتنع بالكتابات التي تشكك في وجود ما يسمى بالمشروع الإسلامي من الأساس. وكانت الأخبار التي يسمعها عن الانقسام الحادث داخل صفوف الجماعة، والخلافات المادية والصراع على القيادة، كأنها طعنات مباشرة في قلبه. وانتهى به الحال أنه صار مؤمناً تماماً بعبثية فكرة الجماعة من أساسها.

 

ويبدو أنه كان يحاول الضغط على نفسه للاستمرار فيها نظراً لحاجته المادية. وكان يكتفي بالتصريح على استحياء بأفكاره هذه لإخوانه، وأحياناً لبعض القيادات. لكن يبدو أن ما قاله ذلك القيادي في اجتماع اليوم كان هو الشرارة التي جعلته ينفجر تماماً ويعبر بكل قوة عما يدور بداخله.

 

عندما أُبلغ مصعب بعد عدة أيام أنه قد فُصل من الجماعة، وأن عليه أن يخلي سريره في السكن، لم يعترض، ولم يجن جنونه، ولم يتحدث عن الاشتراك الشهري الذي كان يدفعه طوال سنين التحاقه بالجماعة. ولم يتحدث عن ظروف حياته الصعبة التي ستجعله ينام في الشارع حرفياً. بل جمع أغراضه، ورحل في هدوء. كان يعلم أن الجماعة قد انكسرت في نظره تماماً، ولا يمكن أن يشعر نحوها بنفس المشاعر التي كان يشعر بها من قبل.
 

خاتمة 

ماذا حدث للمصريين بعد سنوات الثورة والانقلاب؟

يبدو التغيير الحادث في النفوس هائلاً ومتخطياً كل الأمور المقدسة، أو التي أوهمونا أنها مقدسة. تحطمت العديد من الأصنام وتبخرت العديد من الأوهام في نفوس هذا الجيل تحديداً، جيل الشباب مواليد الثمانينات والتسعينات، وتغيرت النظرة للدولة وللحكومة وللجيش وللجماعات الدينية وللشيوخ وللأجيال السابقة. حتى ما وضعه الفقهاء قديماً من قواعد أصولية وفقهية، واعتبره المعاصرون مقدساً لا يمس، لم يسلم من البحث والفحص والمراجعة والتمرد والمطالبة بالتغيير بكل جرأة ودون خوف.

 

هناك زلزال اجتماعي وفكري قد حدث بالفعل وهدم كل الأصنام التي سيطرت علينا طيلة هذه السنوات، بعد أن انهارت أمام أعيننا بشكل مزري ومخيف. تعرت وظهرت عورتها وانكشف لنا زيفها وفقرها وبؤسها الشديد. هناك شيء ما انكسر في القلوب، ولن تعود الحياة بعده كما كانت من قبل، وكل التمرد الذي حدث والذي سيحدث هو نتاج هذا الانكسار. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.