شعار قسم مدونات

جدي والحرب وخان شيخون

blogs خان شيخون
كعادتي وعادة جيلي نحب سماع حكايا الحرب، أيما أحدٍ تحدث عنها "مهما كانت بلاغته وطريقة سرده" انتبهنا وطربنا وشعرنا أننا باستماعنا لها استزدنا شرفا ثم شجاعة وإقداما إذا خضنا الحرب يوما ما..

وما زالت تلك عادتي مع جدتي التي لا تمل من وصف أيامها وبيت أهلها وزوجها والحوادث التي مرت بها، تحكي كل مرة كأنها أول مرة وربما تكون المائة بالنسبة إلي؛ لكني مرغم على السمع لأنه لا أحد سيسمع غيري، إلا أني أيضا مع كل مرة أسلك نفس الحيلة لتغيير سياق الحديث إلى عم أمي الذي استشهد في الحرب ولم يُعثر على جثمانه أو ابن عمه الذي عاد من سلاح المشاة "الفئران" الذي لم يعد منه أحد!

ما جد هذه المرة أني سألتها سؤالا جعلها تتوقف وتفكر على غير عادتها المندفعة اللبقة الغنية بالأمثال والقصص.. سألتها: هل تغير جدي بعد ثلاثة حروب وإحدى عشر عاما في الجيش؟ هل صار شخصا آخر؟ سكتت للحظة ونظرت في عيني متفحصة، ثم اعتدلت فجأة كأنها تذكرت شيئا يبدو أنه سيغير روح القصة وحبكتها (لا بل كان رجلا حكيما عطوفا محبا على عكس أهله، يقدس الهدوء والأرض) لم تكن هذه الإجابة التي أنتظر! ربما هذه المرة الأولى التي أفكر فيها بعم أمي هكذا، وهو الذي كان دائما في مخيلتي البطل الهابط بمظلته وسط حشود العدو يقتل منهم ما شاء ويأسر منهم ما شاء ثم يكمن بعتاده يرصد الأرض والجو ثم يحرر جزءا تلو الآخر، لم أفكر به كإنسانٍ بروحٍ وعقل، يحب ويكره، له أحلام بسيطة ببساطة واقعه ومجتمعه.

لم أعد أجدني ولم أعد قادرا على فهمي، أشعر كأني مُستهلك وبلا طاقة، عاجز عن التفكير العميق والتخطيط للمستقبل، نعم أنا مُستهلك! 

كان هذا السؤال بعد مجزرة خان شيخون، لا أدري ما الذي كان عظيما في هذه المجزرة عن غيرها! ما الذي هزني إلى هذا الحد! وأنا الذي عشت فض رابعة ورأيت بأم عيني الدم الطاهر يُسفك بلا ذنب والأجساد الناضرة التي تُحرق وتُلقى في النفايات، أنا الذي تابعت مجزرة الحولة وحفظت صورها وشاركت بعضها، أنا الذي لا يمل من القراءة عن المجازر والحروب والتعذيب في المعتقلات، أجدني الآن لا أقوى على النظر لصورة من صور هذه المجزرة، وكل ما مررت على ما يخصها مررت سريعا كأني أهرب من شيء ما حتى اضطررت لتعطيل حسابي ليومين كمن يغرز وجهه بالرمل خشية عدوه المتربص به.

ظني كان أن المصائب التي تؤنس بعضها بعضا "كما وصفتها رضوى" ستمر ليأتي غيرها، مع الوقت اكتشفت أن مرورها "بلا علاج" لا يعني زوالها بل يعني فقط موت شيئا ما بداخلك يشعرك بانتهاء أثرها! منذ فترة وأنا ألاحظ تغيرا جذريا في طبيعتي، في تفاعلي مع الأحداث ومع الناس، في نظرتي للمشاكل الخاصة والعامة، في اهتماماتي وما يشغل بالي، في مزاجي النفسي وقدرتي على الإنجاز والمتابعة، في حالي وقت فراغي.

لم أعد أجدني ولم أعد قادرا على فهمي، أشعر كأني مُستهلك وبلا طاقة، عاجز عن التفكير العميق والتخطيط للمستقبل، نعم أنا مُستهلك! قضيت ما مضى من أعوام غارقا في تفاصيل ومشاعر متناقضة تماما خلقت شخصا مشوها يخاف من نفسه!

أنا أكبر أعداء قِصار النظر وأنصاف الحلول والكلمات المسكنة المكررة بلا داع ولا عمل، أرفض أن يشتغل الإنسان بنفسه وحسب وينسى أهله وأمته، لكني أيضا أرفض أن يموت هذا الإنسان وهو حي، أن يصبح مسخا لا روح فيه من كثرة ما مر عليه من أهوال وكوارث!

ولا أظن إطلاقا أن الانعزال عن الواقع وبناء القصور العاجية هو الحل، أرى الحل بأن تكون وسطا في كل أمورك، أن تعطي لكل جانب حقه ما استطعت وهي مهمة شاقة وعسيرة ولن يقوم بها إلا الرجال.. أعلم أن المصاب جلل والكارثة أعظم من أن تُتخيل، لكن نحن خلقنا لنغير العالم ونقوده لا أن يغيرنا ويهزمنا، وصدقني إن قلت لك أن موت قلبك وضياع إيمانك بالله وحسن ظنك فيه هو أعظم مصيبة قد تحل بك.. نعم، نحتاج بعضا من "هون عليك وارفق بنفسك" وبعضا من "اعمل واجتهد واصبر ولا تنس نصيبك من الدنيا" ختمت جدتي: جدك كان لا يخاف الحرب بل كان يفهمها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.