شعار قسم مدونات

توقفوا عن جعل التافهين مشاهير

blogs - facebook

يجلس على سريره، يفتح حاسوبه ويدخل لحسابه على الفيسبوك ثم يطلق العنان للإبداع، يكتب معدل منشور في الثانية وما بين ذلك تعاليق هنا وهناك. ينتقد كل ما قد يخطر ببالك، قد ينتقد سياسة أردوغان، ثم صعود ترامب ثم يسب الأنظمة العربية، وقد ينتقد بعدها فستان شيرين، وخطيب أليسا، ثم يسب فتاة تظهر شعرة من تحت حجابها ويصفها بالعاهرة، وبعدها مباشرة ينتقد الحجاب ويجده طمساً لحرية المرأة، لا ينهض من سريره إلا للأكل ولقضاء حاجته البيولوجية ولا يخرج من بيته إلا نادراً، لا يفكر يوماً في العمل أو الدراسة لأنه يرى نفسه بديع زمانه وفيلسوف بلاده ونجماً ساطعاً داخل عالمه حيث له متابعين يمجدونه ويقدسونه لأنه في نظرهم يشفي غليلهم ويتكلم بما في قلوبهم.
 

وهذا آخر، يدخل بيته الساعة السادسة مساء بعد يوم متعب في عمل لا يحبه ولا يعني له شيئاً، يدخن سيجارة بشراهة ويشرب كأساً لينتقل به إلى عالم الإلهام، العالم الآخر حيث كل شيء مباح، حيث يرى نفسه فوق سطح بناية شاهقة والناس في الأسفل ينصتون له بإعجاب وانتباه ثم يفتح خاصية البث المباشر "اللايف" على الفيسبوك ويبدأ في سرد فلسفته في الحياة، يتساءل عن ماهية الكون ولما الأرض كروية ثم يتساءل لماذا السماء زرقاء وليست صفراء، يحمل كأسه ليشرب بانتشاء ثم يكمل محاضرته، هذه المحاضرة التي نصف كلماتها مفردات سوقية ساقطة، يقولها قصداً ليسمع تصفيقات متتبعيه وإشادتهم بشجاعته، يتساءل فجأة لما الدجاج يقيق ولا ينيق، أو وربما لما سقطت تفاحة على نيوتن ولم تسقط بطيخة، هو كذلك هراء في هراء.
 

وهذه أخرى، تنهض صباحاً على صراخ أمها المعتاد على الساعة الحادي عشر، اعتادت سماع هذا الخطاب منها كل صباح "قريناتك منهن من درسن أو عملن أو تزوجن وأنت فارغة لا تقومين بأي شيء يذكر سوى الوقوف أمام المرأة بالساعات" لا تكترث لكلامها كالعادة. تدخل غرفتها وتخرج الآلات والمعدات لتبدأ في إعداد المشاريع العملاقة، هذه المشاريع التي تحتاج لتركيز دقيق ربما أكثر من حل معادلة رياضية صعبة، تخطط وجهها هنا وهناك، ساعة أو ساعتين للكونتورين وساعة لتجريب كل أنواع أحمر الشفاه وتجلس أربع ساعات لكي تضبط الأيلاينر، ثم تبدأ مرحلة التصوير، 64587 صورة بحركات مختلفة، تختار منهم واحدة لكي تنشرها على الأنستغرام وعلى كل حساباتها على المواقع الاجتماعية، لتجد وبعد ثانية فقط مئات التعاليق والإعجابات، فمنهم من كان ينتظر إطلالة وجهها ليبدأ يومه، ومنهن من تراها قدوتها في الحياة وتتمنى لو رزقها الله ولو بنصف جمالها، ومنهم من يجلس طيلة يومه يرسل لها رسائل غزل وإعجاب عسى أن يحن قلبها ساعة وتجيبه ولو بكلمة.
 

من غير الممكن تجاهل هؤلاء الأشخاص واعتبارهم غير موجودين بيننا لأنهم يساهمون وبشكل رئيسي في انحطاط الذوق العام لأفراد، ويؤثرون سلباً كذلك على فئة كبيرة من المجتمع.

وهذه أخرى، تدعي أنها كاتبة رأي وجاءت لكي تدافع عن حقوق المظلومين وتكشف الحقائق، تكتب عن هذا وذاك وتنتقد هذا وذاك، فقد تجدها اليوم مع اليمين المتطرف وتجدها غداً مع اليسار الراديكالي وتجدها السنة المقبلة مع الإثنين، يتابعها ستون مليون، وتقول بكل ثقة أنها تعبر عن رأي ستين مليون مواطن، ألا تعلم هذه الأخت الفاضلة أنهم ليسوا مواطنين، هي حسابات افتراضية من الممكن أن يكون منها مليونا حسابات وهمية ومليونا أخرى حسابات أخرى لنفس الأشخاص ومليونا أخرى لأشخاص لا يقرؤون ولا يفهمون ما تكتب فقط يعجبون بصورتها الجميلة على كل مقال، ومليونا أخرى ربما حسابات إخواننا الصغار الذين لم يتعدوا العشر سنوات ووجدوا نفسهم فجأة من متتبعيها.
 

هذه المناضلة تجدها تكتب على كل القضايا الساخنة في الساحة العربية وتدعوا الناس للنضال والتغيير والعمل، لكنك لن تجدها يوماً في ساحة النضال والمعركة، هي مناضلة الفيسبوك فقط وقد تكتشف بعد موقف واحد على أرض الواقع أن كل هذا الكلام والمواقف والآراء التي تكتب عنها هي لغة خشب وكلام جرائد وسعي وراء شهرة فارغة فقط.
 

من هؤلاء؟ أتساءل دائماً من هؤلاء، أين هم داخل عالمنا الذي نعيشه؟ أين مواقفهم وأعمالهم وانجازاتهم؟ لا مكان لهم، هم مثل تلك الشخصيات الخرافية التي نحلم بها وما أن نصحوا من الحلم حتى تتبدد وتختفي.
 

إن المواقع الاجتماعية منحتنا مجالاً كبيراً للتعبير الحر عن أنفسنا وآرائنا وإبراز طاقاتنا، هذا المجال الذي افتقدناه في مجتمعاتنا العربية لسنين خلت، لكنها وفي نفس الوقت أعطت فرصة لبعض الفارغين للظهور والشهرة، هذه الشهرة القائمة على شخصية فارغة لا تعطي للمتلقي سوى قيماً فارغة، ورسائل سخيفة، وفكراً مختلاً، وغباوة لا حدود لها.
 

إننا من غير الممكن تجاهل هؤلاء الأشخاص واعتبارهم غير موجودين بيننا لأنهم يساهمون وبشكل رئيسي في انحطاط الذوق العام لأفراد، ويؤثرون سلباً كذلك على فئة كبيرة من المجتمع، هذه الفئة التي تضيع الوقت الكبير في محتويات تافهة وساذجة لا تعود عليها ولا على بلادها بالنفع بل على العكس.
 

إنها لطامة كبرى أن يقتدي هذا الجيل المقبل بهؤلاء الأشخاص ويصبحون مهووسون بهم ويقلدونهم في كل شيء، قُل لي إلى أي درجة سيصل مستوى هذا الجيل من العبثية والضحالة والسطحية، بعد استهلاكه لهذه الرسائل التافهة.

نعم نحن الآن بحاجة كبيرة إلى مؤثرين على المواقع الاجتماعية "Social media influencers" بحاجة إلى وجوه جديدة مؤثرة تستحق لقب القدوة، ولكن مؤثرين بالأفكار القيمة والمعاني الراقية والرسائل الجادة والعلم النافع والانجازات الكبيرة التي تجعلنا مدهوشين أمامها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.