شعار قسم مدونات

الدولة الإسلامية ومشكلة المنهج (1)

blogs - العلمانية
نشرتُ في هذه المدونة خمسَ مقالاتٍ عن موضوع الدولة أُلَملم أفكارها هنا قبل أن أمضي في استكمال التأريخ للتفكير السياسي الإسلامي في العصر الحديث: تناول المقال الأول فكرة "الدولة الإسلامية" اصطلاحًا ومفهومًا، متى نشأت وكيف تطورت، وأنها تعبيرٌ إخوانيٌّ يرجع غموضُه إلى أنه يلتبس -في خطاب الإخوان وإخوانِهم- بجملة مفاهيم هي (الدولة الحديثة، الخلافة، الإمامة، الحُكم، والحكومة)، فلم يقدموا لنا تحديدًا لمفهوم "الدولة الإسلامية" يوضح لنا ماهيتها، وبماذا تختلف عن الدولة الحديثة؟ وما شكلُ علاقتها بالخلافة؟ وما منهج استمدادها من الموروث السياسي الإسلامي؟
 
وتكاد تُجمع الكتابات من حسن البنا إلى د. محمد سليم العوا ود. القرضاوي على معنى واحد هو: الدولة التي تَحكم بالشريعة، ويحكمها مسلمون، ولكن هذا التحديد غيرُ كافٍ ولا وافٍ، ومَنْ يتقدم منهم خطوةً يستعير من القانون الدستوري الحديث مقومات الدولة الحديثة ليُثبت أنها موجودة في "الدولة الإسلامية" كما فعل عديدون دون أن يَشعروا أنهم يقعون في تناقض بين حرصهم على التماثل مع الدولة الحديثة مع حرصهم على الاستعلاء عليها والتمايز عنها وأنها غير مسبوقة في التاريخ!

بالاستناد إلى تاريخ الأفكار وما سبق لا بد من التفريق بين مفاهيم: (الدولة الحديثة، الخلافة، الإمامة، السلطنة، الدولة الإسلامية، الحكم، السياسة)، فكثيرًا ما يقع الخلط فيها، ويتسبب عن ذلك سوء الفهم.

وبعد بحثٍ وافقتُ نزيه الأيوبي في دراسته المهمة أنه ليس لدى الإسلاميين مفهوم محدد للدولة، ووافقت رضوان السيد في أنّ من آثار غياب هذا المفهوم أنه ما تَحَدث أحد من الإسلاميين في الخمسينيات والستينيات عن تنظيمات الدولة أو دستورها أو قانونها؛ لأن كتاباتهم كانت أيديولوجية وسجالية ولم تكن كتابات بحثية. وذكرتُ: أن الأمر اختلف بعض الشيء في الثمانينيات؛ إذ ظهر بعضُ الاهتمام بالآليات السلطوية للسلطة المؤقتة، ولكنها بقيت (سلطةً) ولم تصل إلى الحديث عن (دولة)، بل حتى الكتابات عن (الدستور) كانت كتابات هشّة، أما الكتابات عن تنظيمات الدولة ومؤسساتها وآلية تشكلها وعملها وكيفية حكمها فتكاد تكون غائبة، ولكننا نعرف جيدًا كل ذلك بخصوص الخلافة والسلطنة تاريخيًّا، ويجب القول: إن بحث الإسلاميين والمفكرين العرب في شكل المؤسسات التاريخية وآلية عملها شحيحٌ، فليس صحيحًا أن الكيانات السياسية الإسلامية التي قامت (خلافة أو سلطنة) واستمرت لقرون متطاولة لم تكن تعمل بلا مؤسسات، أو أنه كان يحكمها أفراد، وقد نبه إلى هذا أستاذنا طارق البشري.

من الواضح أنني لم أعطِ المقالات ترقيمًا تراكميًّا؛ لأن كلاً منها عالج فكرة أو زاوية منفصلة عن الآخر. ومن هنا كان هدف مقال (دفاعًا عن استحالة الدولة الإسلامية 1و2) هو توضيح فكرة كتاب حلاق (وليس دفاعًا عن شخص حلاق بأي حال!)؛ لأن ما يسمى في مناهج النقد الأدبي (جماليات التَلَقي) يقدم لنا مفهومًا تحليليًّا يساعدنا على قراءة أفكار المعلّقين على الكتاب أكثر مما يساعدنا على فهم الكتاب نفسه، وللخروج من "تَلَقي الكتاب" إلى فكرة الكتاب نفسه حاولت وضْعَه في سياق مشروع حلاق أولاً ثم في سياق فكري أوسع هو الكتابات عن نشوء الدولة القومية بعد سقوط الخلافة، وقراءة التحولات القانونية والاجتماعية في العالم العربي وما نتَج عنها من ثنائية التقليد والحداثة التي هي ثنائية إشكالية حتى الآن.

أما مقال (الدولة الإسلامية الهجينة 1 و2)، فهو مقالٌ في تحليل (خِطاب الدولة الإسلامية) بناءً على مرجعيات حمَلة ذلك الخطاب التي يقولون إنهم يستندون إليها، وقد خلَص المقال إلى أن مقولة "الدولة الإسلامية" أطروحةٌ هجينةٌ تستعير صورة "الدولة الحديثة" وتحتفظ بظلّ "الخلافة"؛ في مواءمة شكلانية لا تَعِي منظومة الدولة ولا منظومة الخلافة. ولكن المثير للاهتمام هنا أن الإخوان خالفوا في ذلك مذهب أهل السنة والجماعة وحوّلوا "الدولة" إلى عقيدة إيمانية للمسلم، وقد أوضحتُ تفاصيل ذلك في بحث علمي مُحكَّم نُشر في مجلة "تَبَيُّن" تحت عنوان "الوسطية الإسلامية وفقه الدولة" وهو متاحٌ على صفحتي على موقع أكاديميا.

والآن نشرعُ في مقالٍ جديد (سيتخذ رقمًا جديدًا مسلسلاً) عن منهجيات التفكير السياسي الإسلامي ونَقد بعض السرديات التي تُعتَبر مسلّمات لدى بعض المتكلمين في الفكر السياسي الذين يجمعون بين المتنافرات من دون منهج قويم ولا متسق.

في الحديث عن الفكر السياسي هناك مستويات للتفكير والتحليل:
1. التراث السياسي النظري.
2. التجربة التاريخية.
3. التنظيرات الحديثة لفكرة الدولة الإسلامية.

وغنيٌّ عن القول أن كلامي هنا ونقدي السابق كان من أهدافه – كما قلت في واحد من المقالات السابقة – أنه "لا بد من فك السحر عن (الدولة الإسلامية) حتى يكون بوسعنا أن نرى أفكارًا أخرى تحملنا إلى فضاءات جديدة خارج المألوف والمكرور الذي لم يَنضج ولا يبدو أنه قادر على النضج"؛ لتناقضاته الداخلية وهشاشته، من دون أن أخوض في تفاصيل ذلك البديل، ولذلك فإن الظنَّ بأنني أدعو إلى استعادة الخلافة تَقَوّلٌ فجٌّ؛ فالمقالات بأجمعها لم تَصل بعدُ إلى الحديث عن البديل، ولا يمكن الخوض فيه قبل الانتهاء من نقد الفكر الموجود وبيان أوجه الإشكال فيه، كما أن ذلك مرتبطٌ بالإحاطة بمستويات التفكير الثلاثة السابقة والبناء عليها إيجابًا أو سلبًا.

(تحوير المفاهيم) الذي قام به مفكرو الإخوان المسلمين أوقع في مشكلات كبيرة، ومن أبرز هؤلاء الذي قاموا بذلك الشيخ يوسف القرضاوي وهو لا يرى في ذلك التحوير مشكلة!

فعلى مستوى التحولات التاريخية الحديثة، شكّل سقوط الخلافة العثمانية ذروة المأزق الذي اصطدم به المسلمون في العصر الحديث، وإن كان الوعي بالمأزق بدأت بوادره في القرن التاسع عشر، ولذلك نشأت كتابات النهضوببن والإصلاحيين العرب لمواجهته والبحث عن حل له، ولكن المأزق تَعَمق مع سقوط الخلافة ثم الاستعمار الأوروبي ثم قيام ما سُمي بـ "الدولة الوطنية" أو "الدولة القومية"، فتحول المأزق إلى مأزق مزدوج: مأزق الدولة القائمة ومأزق التفكير بها: هل نستعيد الخلافة أو نسعى إلى بناء دولة حديثة؟ وما شكل الدولة التي نريدها؟ وبسبب ذلك نشأ الصراعُ بين إسلاميين وعلمانيين، وهو الصراع الذي سيَسِمُ جُلّ الكتابات منذ عشرينيات القرن الماضي حتى الآن، أي منذ أطروحة علي عبد الرازق وصولاً إلى حقبة الثورات والصراع على مدنية الدولة في مصر، وقد جعل بعضهم من أطروحة "الدولة المستحيلة" استئنافًا لأطروحة علي عبد الرازق وهي لا صلة لها بها!

أخذت معالم هذه "الدولة القومية" تَبرز أثناء فترة الإصلاحات الليبرالية التي جرت في القرن التاسع عشر (التنظيمات العثمانية 1839-1876، وإصلاحات محمد سعيد وإسماعيل باشا في مصر 1854-1879)، ولكن هذه الإصلاحات شكّلت ضربةً كبيرة لنظام المجتمع التقليدي؛ لأنها فُرضت من أعلى ولم تكن نتيجة تَطَور داخلي، وبذلك فتحت الطريق أمام تغيرات في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وأدت إلى ولادة علاقات برجوازية ورأسمالية ورسخت قواعد دولة من نمط جديد، برز فيها:

(1) الفصل بين السلطات (2) وفرض التخصص في الوظائف الإدارية التي صاغت أسسَ القانونِ المدني الجديد والتعليمِ العلماني بل والحياة الاجتماعية بشكل عام، وهو ما أنتج نمطَ علاقات جديدة بين الفرد والمجتمع وهو نمط مضادٌّ جذريًّا للقيم والأحكام الدينية والاجتماعية التي كانت سائدة من قبل، (3) وقد اتسمت هذه الدولة بمركزية السلطة (4) وتأسيس مؤسسات جديدة للدولة، (5) وتوحيد طرق قياس القوانين الإدارية. أي أنه حصل تحولٌ جذريٌّ في ما أسميه "الأزمنة الحديثة" أظهرَ رؤية جديدةً للعالم مفارقة للرؤية التي سادت خلال "الأزمنة الكلاسيكية"، وبتأثير من هذه الرؤية الجديدة وبضغطٍ من الفكر السياسي الأوروبي ظهرت مفاهيم (الوطن والوطنية، والدولة القومية)، وتقدم أعمال ألبرت حوراني وأنور عبد الملك وبرنارد لويس ونيقولاي إيفانوف وطلال أسد وسامي زبيدة وآخرين دراسات مهمة في هذا الإطار.

ووفق هذا التأريخ للأفكار (وقد قدمتُ عدة دراسات في هذا الحقل خلال السنوات العشر الماضية) يمكن فهم الأفكار والمشاريع والكتابات التي تنتمي إلى هذه الحقبة، وأنها تَعكس أشكالَ التفاعل مع هذه التغيرات: بالتلاؤم أو بالمقاومة أو بالانكفاء، وفي هذا السياق ظهرت تيارات التغريب والمحافظة والإصلاح (وفق اصطلاح قومٍ)، أو تيارات الإصلاح والإحياء (باصطلاح آخرين). وحين نقول: (التقليد والحداثة) فإننا نحيل إلى ما قبل هذه التحولات وما بعدها. ولكن لماذا نؤرخ لهذه الأفكار؟ للخروج من "إيمانيات" الإسلاميين الحركيين التي تُصور عالم الأفكار وكأنه عالمٌ من العقائد المغلقة والنهائية أولاً، وللوعي بما حدث وكيف حدث ثانيًا، وللبناء على ما سبق بوعيٍ وتَجَاوزه ثالثًا.

خطاب "الدولة الإسلامية" خطابٌ دعويٌّ نشأ في مواجهة الخطاب العلماني وتحديات الحداثة المهيمنة، واستعادة الخلافة ليست ممكنة، والتسليم للدولة القهرية القائمة ليس ممكنًا أيضًا.

وبالاستناد إلى تاريخ الأفكار وما سبق لا بد من التفريق بين مفاهيم: (الدولة الحديثة، الخلافة، الإمامة، السلطنة، الدولة الإسلامية، الحكم، السياسة)، فكثيرًا ما يقع الخلط فيها، ويتسبب عن ذلك سوء الفهم. فبعض هذه المفاهيم تنتمي إلى قاموس الفكر السياسي الحديث (من الحداثة) وبعضها ينتمي إلى قاموس الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي، والمفاهيم لا تعمل بشكل معزول ومفرد، بل تعمل ضمن شبكة مترابطة من المفاهيم والتصورات المتسقة التي تعكس رؤية العالم، ولذلك فإن (تحوير المفاهيم) الذي قام به مفكرو الإخوان المسلمين أوقع في مشكلات كبيرة، ومن أبرز هؤلاء الذي قاموا بذلك الشيخ يوسف القرضاوي وهو لا يرى في ذلك التحوير مشكلة! ولا بد من القول: إن مقالاتي السابقة عالجت أطروحة "الدولة الإسلامية" بشكل رئيسٍ وإن أشارت عرَضًا إلى الخلافة؛ بقدر ما يقتضيه الكلام.

يتنازع الموقفَ من الكيان السياسي وشكله اليوم توجهاتٌ عدة: (1) تيار استعادة (الخلافة) سلمًا كحزب التحرير وجماعة العدل والإحسان، أو بالجهاد المزعوم كجماعات العنف وأَحْدَثُها جماعة "تنظيم الدولة الإسلامية" الذين يعلنون الخلافة ويسمونها "الدولة الإسلامية"، أي أنهم وقعوا في الخلط نفسه الذي وقع فيه الإخوان المسلمون! (2) وتيار "الدولة الإسلامية" الذي يحمله الإخوان المسلمون، والذي تَأَسس ابتداء على أن الدولة مرحلة إلى الخلافة، ولكن مع الوقت رضي بالدولة القومية حتى إن بعضهم تَحدث عن "الدولة القومية الإسلامية" كما فعل الشيخ أحمد الريسوني وعبد المنعم أبو الفتوح قبل أن يخرج من الإخوان. وفي مقابل ذلك هناك أطروحة الدولة العلمانية التي يقدم أردوغان صيغةً مؤمنة لها، وتحاول حركة النهضة أن تقدم صيغة مغايرة الآن تتخلى عن فكرة "الدولة التي تحكم بالشريعة" وترضى بالعمل وفق جهاز الدولة العلمانية، وهناك أيضًا الصيغة المغربية التي ترى أن الملَكية القائمة هي دولة إسلامية يمكن العمل تحت سقفها.

ولو قارنّا بين كتابات الإسلاميين عن "الدولة الإسلامية" وواقع تجاربهم سنجد مفارقة كبيرةً واختلافًا كثيرًا، ولكن لو ركزنا على الكتابات والتنظيرات عن "الدولة الإسلامية" فسنجد أنها لا تزال قاصرة وهشة منهجيًا ونظريًا، ولا تقوم على أساس متين من قراءة التجربة التاريخية ولا على أساس متين من معرفة الدولة الحديثة وفلسفتها، وأن خطاب "الدولة الإسلامية" خطابٌ دعويٌّ نشأ في مواجهة الخطاب العلماني وتحديات الحداثة المهيمنة، واستعادة الخلافة ليست ممكنة، والتسليم للدولة القهرية القائمة ليس ممكنًا أيضًا، وهذا هو جوهر المأزق الذي يجب أن يَقُض مضاجع المفكرين في سبيل البحث عن مخرج بعيدًا عن الشعارات والإيمانيات التي لا تَرْوي من ظمأ ولا تُشبع من جوع، وهذا المأزق هو الذي دفع إلى مثل تلك الصيغة والتواؤمات المختلفة للإسلاميين أنفسهم، وهو المأزق الذي أفشل تجارب الإخوان في مصر والسودان حيث تحطمت الشعارات مع الاحتكاك بأجهزة الدولة والعجز عن فهمها والعمل من خلالها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.