شعار قسم مدونات

كشف الالتباس عن وثيقة حماس

blogs - hamas

"حماس لم تتغيّر، وإنما تطورت". بهذه العبارة دافع خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، عن الوثيقة الجديدة التي أعلنت الحركة أنّها تمثّل رؤيتها ومَهَمَّتها. وكما هو متوقّع، فقد أثارت الوثيقة ردود فعل طغى عليها التشكيك واللوم. وكما هي العادة، فعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ/ولكنّ عينَ السُّخْط تُبدي المساويا.

 

ربما يوحي صدور وثيقة جديدة عن "حماس" بأنّها ناسخة لما قبلها، وهو الميثاق الذي صدر عام 1988، في أوج الانتفاضة العظيمة التي شهدها الوطن المحتل، لكن ليس بالضرورة، فالميثاق القديم يعبّر عن نشأة الحركة، ويتزامن مع انطلاقتها، والوثيقة الجديدة تجسّد مرحلة جديدة من مراحل تطوّرها وتكيّفها مع المحيط، وينبغي ألا تتناقض الوثيقتان، وألا تتنصّل الحركة من شهادة ميلادها التي عرّفتها للعالم. قد يشير اسما "الميثاق" و "الوثيقة" إلى هذا التمييز، فالميثاق يظل الدستور الذي بكلماته تستهدي الحركة، والوثيقة تأطير للنمو الطبيعي لها في ظل الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية شديدة التعقيد.

 

هل طوت حماس ميثاقها الذي تنفّست الحياة به؟ في البدء ينبغي القول إنّ الحركات القويّة والأمم العظيمة لا تتخلى عن جذورها ومنطلقاتها، ولا تتنكر لقيمها ومرجعيّاتها، ولا يبدو أنّ الحركة غيّرت رؤيتها الكونية التي بسطتها في الميثاق، وإن كانت أدخلت تغييرات ملحوظة على الخطاب والمفردات في الوثيقة الجديدة. اتّجهت الحركة في وثيقتها إلى صياغة مختصرة ومنضبطة غلبت عليها اللغة السياسية، بعكس الميثاق الذي كان طويلاً وحافلاً باستعارات واقتباسات دينية وثقافية وتاريخية، وبدا أنّ الذي وضعه أهل فقه أكثر من كونهم ساسة. انظر مثلاً هذه إلى النصوص من الميثاق: "فلسطين وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصحّ التفريط بها أو بجزء منها، أو التنازل عنها أو عن جزء منها"، "لا بد من ربط قضية فلسطين في أذهان الأجيال المسلمة على أنّها قضية دينية"، الغزوة "الصهيونية الحالية سبقتها غزوات صليبية من الغرب، وأخرى تتريّة من الشرق، وكما واجه المسلمون تلك الغزوات، وخطّطوا لمنازلتها وهزموها، يمكنهم أن يواجهوا الغزوة الصهيونية"، "أعضاء حماس مسلمون "أعطوا ولاءهم لله، فعبدوه حقّ عبادته….ورفعوا راية الجهاد في وجه الطغاة"، "يوم يغتصب الأعداء بعض أرض المسلمين، فالجهاد فرضُ عين على كلّ مسلم، وفي مواجهة اغتصاب اليهود لفلسطين لا بدّ من رفع راية الجهاد"، منظمة التحرير تتبنّى فكرة الدولة العلمانية المناقضة "للفكرة الدينية مناقضة تامّة"، وعندما تتبنّى الإسلام نهجاً للحياة "فنحن جنودها ووَقود نارها التي تحرق الأعداء". اشتمل الميثاق على نحو أربعين آية قرآنية، وخمسة أحاديث، وخمسة أبيات شعر، كما نصّ على أنّ الحركة "جناح من أجنحة الإخوان المسلمين"، مستشهداً بعبارة لحسن البنّا تقول: "ستقوم إسرائيل، وستظلّ قائمة إلى أن يُبطلها الإسلام كما أبطل ما قبلها".

 

بعكس الميثاق، لم ترد في الوثيقة آيات ولا أحاديث ولا أشعار ولا نصوص للبنّا ولا لغيره، كما لم ترد فيها الإشارة إلى ارتباط الحركة بجماعة الإخوان المسلمين. اختفت من الوثيقة الخلفيّات التاريخية والتعميمات الفضفاضة والشروح الطويلة، لكنّها لم تتخلّ عن إيديولوجية الحركة وثوابتها الكبرى التي ظهرت بصياغة أكثر ضبطاً وسلاسة. أرض فلسطين، بقيت في مقاربة "حماس"، أرضاً "مباركة مقدّسة، لها مكانتها الخاصة في قلب كلّ عربي ومسلم"، وفيها "بيت المقدس الذي بارك الله حوله…وهي قبلة المسلمين الأولى، ومسرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعراجه إلى السماء….وهي أرض القائمين على الحق، في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، الذين لا يضرّهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتيَ أمر الله". ترفض الوثيقة كلّ ما ينال من الحقّ الفلسطيني بدءاً من وعد بلفور، وصكّ الانتداب البريطاني على فلسطين، وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وكلّ القرارات التي تعترف بالكيان الصهيوني.

 

التوقّعات التي ردّدتها الصحافة العالمية قُبيل صدور الوثيقة (وتبعتها وسائط متصهينة عربيّة)، والتي مؤدّاها أنّ "حماس" ستتخلّى في وثيقتها عن "تدمير إسرائيل"، لا تعدو أن تكون "افتراضاً مسبقاً"، فالميثاق لم ينصّ على "تدمير إسرائيل"، والوثيقة لم تغيّر ما لم يكن موجوداً. عبارة "تدمير إسرائيل"، في الأصل، عبارة صهيونية استعارتها الدوائر السياسية والصحافية في الولايات المتحدة، وتشير إلى إصرار "حماس" على تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وهو ما ذكره الميثاق، وأعادت الوثيقة تأكيده. "حماس" لم تغيّر جلدها. تقول الوثيقة إنّ "قيام "إسرائيل" باطل من أساسه"، وإنّ "كل ما طرأ على أرض فلسطين من احتلال أو استيطان أو تهويد أو تغيير للمعالم أو تزوير للحقائق باطل؛ فالحقوق لا تسقط بالتقادم". هذا النص يعني تحرير فلسطين كلّها، وهو ما يُشار إليه بـ "تدمير إسرائيل".

 

كلمة "الجهاد" التي وردت في الميثاق سبع مرات، أشارت إليها الوثيقة مرة واحدة، معطوفة على كلمة "المقاومة": "ستظل المقاومة والجهاد لتحرير فلسطين حقاً مشروعاً وواجباً وشرفاً لكل أبناء شعبنا وأمتنا". كرّر الميثاق كلمة "اليهود" في سياق آيات قرآنية وأحاديث نبوية، بينما تناولتها الوثيقة في سياق مختلف مشيرةً إلى أنّ "حماس لا تخوض صراعاً ضدّ اليهود لكونهم يهوداً، وإنّما تخوض صراعاً ضدّ الصهاينة المحتلّين المعتدين، بينما قادة الاحتلال هم من يقومون باستخدام شعارات اليهود واليهودية في الصراع، ووصف كيانهم الغاصب بها". أرادت "حماس" بذلك ضبط لغة الميثاق وتحديدها، وتقديمها في قالب متوازن.

 

لم يرد ارتباط حركة حماس بالإخوان المسلمين في الوثيقة، لكنّ الحركة أعادت تعريف هذه المادّة قائلة إنّها "حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيّتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها" (أرادت الحركة من كلمة "وطنية" التشديد على أنّ حدود معركتها هي الجغرافيا الفلسطينية، فكلّ زعم بأنها "أممية"، أو "عابرة للحدود"، باطل). ولكي تؤكّد "حماس" لجماهيرها وللعالم أنّها لم "تتبرّأ" من مرجعيتها الإخوانيّة، فقد أبلغ خالد مشعل بي بي سي بُعيد الإعلان عن الوثيقة أنّ "حماس جزء من المدرسة الإخوانية فكراً، لكنّنا تنظيمياً تنظيم مستقل".

 

النقطة الأبرز التي أثارت عاصفة من الاتهامات ضدّ "حماس" هي قبولها في الوثيقة بـ "دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أُخرجوا منها". بعض عناصر السلطة في رام الله، وأصوات معادية للإسلاميين في وسائط مصرية وخليجية، طالبت "حماس" بالاعتذار للشعب الفلسطيني وللأمّة بعد وصولها كما زعموا إلى ما وصلت إليه حركة "فتح" في الثمانينيات من قبول بدولة على حدود 1967. لكن ثمّة فرق كبير. حماس نصّت في المادة 20 من الوثيقة على أنّ قبولها بالدولة "لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية". قبول "حماس" بالدولة لا يمكن الحكم عليه بمعزل عن السياق الذي ورد فيه، وهو أنّه "لا تنازل عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أيّ بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها". هذا النص يختلف تماماً عن موقف منظمة التحرير التي أعلنت عام 1988 اعترافها بالقرارين الدوليّين 242 و 338، ونبذ "الإرهاب" (الكفاح المسلّح)، والقبول بالقرار 181 الذي يدعو إلى إقامة دولتين في فلسطين، عربية ويهودية، وهو ما يعني اعترافاً بشرعية الاحتلال الصهيوني.

 

"حماس" ستظلّ مرفوضة، لأنها ترفض شروط اللجنة الرباعية الدولية: الاعتراف بإسرائيل، احترام الاتفاقات الموقّعة بينها وبين منظمة التحرير، ونبذ المقاومة بوصفها "إرهاباً".

في الحقيقة، عرْض "حماس" قبولها بدولة كاملة السيادة في الضفة الغربية وغزة ليس جديداً، فقد سبق أن أشار بعض قادتها إلى احتمال موافقتهم على هذا الخيار بوصفه حلّاً "مرحليّاً"، على ألا يتضمّن اعترافاً بالاحتلال. وقد أبلغ مؤسس الحركة، الشيخ أحمد ياسين، صحافيّ قناة الجزيرة، أحمد منصور، في برنامج "بلا حدود" عام 1999 أنّه يقبل دولة على أراضي 1967 بوصفها "هدنة" طويلة الأمد من غير اعتراف بما يُسمّى "حقّ إسرائيل في الوجود"، مشترطاً انسحاباً كاملاً من تلك الأراضي، وإزالةً للاستيطان. كما ردّ الشيخ ياسين على النائب السابق في الكنيست، طلب الصانع، الذي سأله عندما زاره في السجن عام 1993: "لو طُلب منك أن توقّع على اتفاق مع إسرائيل، فماذا ستفعل"؟ فقال الشيخ: "ممكن أن نوقّع على اتفاق هدنة لعشر سنين أو عشرين سنة، شرط أن تنسحب "إسرائيل" من الضفة الغربية والقطاع والقدس الشرقية إلى حدود 67 بدون شروط، وتترك للشعب الفلسطيني الحرية الكاملة في تقرير مصيره ومستقبله". الجديد في الوثيقة أنّ صيغة "الهدنة" أصبحت جزءاً من برنامج الحركة، من غير تفريط بخطوطها الحمراء.

 

تشير الوثيقة إلى حيويّة حركة "حماس"، وقدرتها على التكيّف مع المتغيّرات، لاسيّما أنّ صدورها تزامن مع تغييرات في أعلى هرم القيادة السياسية، حيث تنازل خالد مشعل طوعاً عن رئاسة المكتب السياسي، وانتُخب إسماعيل هنيّة خلفاً له. لكن لا ينبغي التعويل على مواقف دولية وإقليمية إيجابية تجاه هذه الخطوة. "حماس" ستظلّ مرفوضة، لأنها ترفض شروط اللجنة الرباعية الدولية: الاعتراف بإسرائيل، احترام الاتفاقات الموقّعة بينها وبين منظمة التحرير، ونبذ المقاومة بوصفها "إرهاباً". كما أنّ النأي عن الارتباط بالإخوان المسلمين تنظيمياً لن يشفع للحركة، فستظلّ "إخوانية" الجذور، كما  سيُقال، ولن تخدع أحداً بما وصفته دوائر إسرائيلية بـ "تبييض مواقف وغسيل كلمات".

 

يبقى المهم هو الثبات. "حماس" ظلّت في وثيقتها وفيّة لكلماتها الأولى في الميثاق، مع تغيير (براغماتي) في المفردات والسياسات أملته المعطيات على الأرض، و "سنّة الحياة" بتعبير خالد مشعل. حماس الأمس لم تختلف عن حماس اليوم. أما "الرباعية"، فلن ترضى عن "حماس" حتى تتّبع ملّتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.