شعار قسم مدونات

ليلة بكى فيها إبراهيم

A child reacts while waiting with others to be evacuated from a rebel-held sector of eastern Aleppo, Syria December 16, 2016. REUTERS/Abdalrhman Ismail
كان من الطبيعي أن أجعل الحزن آخر اختيار للمحور الذي يدور حوله ما هو آت؛ لأنه يتنافى وفطرتي أو لأن الناس يتطيرون بذكره أو لا لهذا ولا لذاك وإنما لكونها مدونتي الأولى! لكن شيئا لم يعد طبيعياً مُذ فتحت على قلوب الصغار أبوابُ الحزن بلا رحمة، وليس مقبولاً التوقع بعد أن أضحت رائحة الدماء مستمرة خانقة، حين اختلت الموازين وتبدلت الأعراف انقلبت الأمور كلها واستحال الحزن شعوراً طبيعياً تمهد طريقه إليك الوقائع الشاقة من حولك وتدفعك للغرق فيه نفسُك المنهكة من تعاقب تلك الوقائع..

لهذه الأسباب تخليتُ عن الفطرة التي تفر من الحزن كأنما تفر من الأسد. فلا أمقت شيئا قدر مقتي له ولكننا لا نجد غيره بداً من قسوة المشاهد التي نراها يوميًا، نهرع إليه كالمستجيرين من الرمضاء بالنار؛ لأننا وسط عويل الصغار بلا ذنب اقترفوه ينبغي أن نترك للحزن فرصة يغمرنا فيها.

كل هذا الحزن ما كان لينزل بقلبي لولا إبراهيم! صبي سوري في السابعة من عمره حسن الخلق يوسفيّ الجمال، يقطن وإخوته الخمسة وأبيه وأمه منزلا صغيرا بالبناء المقابل لنا، يشاركهم المنزل أسرة من جيرانهم في سوريا.. لم نتعامل معهم، ولكن صوت إبراهيم الذي لا ينفك ينادي أصدقاءه من الأطفال كان مألوفاً لي جداً، شأني في ذلك شأن سكان الشارع جميعاً.

وقفت أشهد المقل الباكية وأنا مستيقنة أن ملائكة تحوطها، وقلت لنفسي أن هذا موضع رحمة فإن الله مع المنكسرة قلوبهم، ولعل وجودي بشرفتي في محيطهم يعرضني لنفحة من نفحات رحمة الله لهم.

اعتدت هذا الصوت لفترات طويلة، يغيب وقتاً قصيراً ثم يعود، إلى أن جاء اليوم الذي طال فيه الغياب، خرجت إلى شرفتي استطلع السبب، فرأيت مالم أحسب له حساباً.. سيارة محملة ببعض الأمتعة يزيدها إبراهيم كلما التقط متاعاً جديداً من أخته ليثبته السائق على السيارة التي فهمت فيما بعد أنها جاءت لتقلّ أسرة إبراهيم إلى إحدى القرى المجاورة لمدينتنا.
 

ظل إبراهيم يتحرك في المسافة القصيرة بين مدخل البناء والسيارة ذهاباً وإياباً في سكون وانكسار ما خلق أحدهما ليكسو وجه طفل، وفي كل مرة قبل أن يقترب من المدخل حيث تنتظره أخته ليحمل عنها، يشد رداءه فتستطيل يده ليمسح وجهه، ظننته أول الأمر يمسح عن وجهه عرقاً أصابه لثقل حمله، لكن شهقاته المتقطعة وارتفاع صوت أنفاسه كلما تحرك مبتعدًا كشفت لي أنه يمسح عن وجهه عبرات ما كان لها أن تعرف طريق عيونه في هذه السن الصغيرة!
 

استمر إبراهيم على ديدنه، يقترب فيكفكف دموعه ويبتعد فتنطلق عينيه، حتى نزلت العائلتان إحداهما تستعد للرحيل والأخرى ستمكث بشارعنا بعد أن وجدوا منزلًا أصغر، نزلوا وعلا صوت البكاء، ولم يعد إبراهيم الباكي الوحيد ليكبح جماح بكائه، أشعل بكاؤهم في صدور الرجال لهيبًا فرأيت أبا إبراهيم يندفع نحو مدخل البناء ليغلق النوافذ ثم توقف أمام نافذة كانوا قد أحاطوها بالورود التي كثيرًا ما رأيت الفتيات يسقينها وتداعبهن، وظل يحرك رأسه في حسرة أغلق بعدها النافذة ومضى يستكمل توصيل الأمتعة للسيارة.

اختفى إبراهيم بين أجساد الكبار، ثم سقطت عليه عيناي يتحرك باتجاه باب البناء، استقر هناك والأمهات أمامه يودعن بعضهن والفتيات ينتحبن، ويرددن "يارب"، شعرت ببرد يحوطني وبقلبي تتسارع نبضاته، أيطلبون من الله انتقامه ممن تسببوا فيما يعيشون، أم يطلبون منه لعنته على كل من بخلوا عليهم بالرحمة ؟!
 

حل بقلبي مع الحزن خوف لم يسبق أن سكنه قط، خفت ثورة الأرض التي شهدت انكسار قلوب الصغار على سطحها الليلة، خفت أن تزلزل من تحتنا جميعاً!

وأمام مدخل البناء وقف إبراهيم يبكي، بكى حتى حضه البكاء على أن يسعل، ثم استفز السعال معدته الصغيرة فتقلصت ولم تستقر إلا بعد أن أرجعت محتواها.. عندها علا نحيبه ضجيج ارتطام الطعام بالأرض، وأفراد العائلتين مارين به بما تحمل أيديهم، لم تتوقف لأجله حركة نقل الأمتعة، لم يركضوا ليثبتوا رأسه بين أيديهم، مر الجميع كأن من يقف بباب البناء لا يألم وإنما يشرب ماءاً، كأن ما مر عليهم من الشدائد جعل هذا المشهد أهون من أن يتوقفوا عنده، أو كأنه القدر حين يقرر صنع مشهد قاسٍ فيجمع على طفل كل ألوان العذاب في آن واحد..

أفرغ إبراهيم ما بمعدته ومسح فمه وراح يحمل الأمتعة المتبقية ليناولها سائق السيارة التي ستحملهم إلى حيث لا يعلم ولكنه كان ينظر إليها بغضب ولوم كأنها السبب في فرقته ورفاقه، وبدا من نظرته أنه لا شك سيكره أي مكان تحملهم إليه! جاءت لحظة الحسم وركب إبراهيم السيارة، حمل والده حقيبته الشخصية ولحقه، وشرد ذهني فيما يمكن أن تحويه حقيبة والده، بقايا أموال من المؤكد أنها قليلة وإلا ما أجبرتهم على ترك المدينة إلى قرية، عقد امتلاك بيت من الممكن ألا يجدوه إذا ما عادوا، وثيقة زواج، شهادات ميلاد، جوازات سفر وربما آنية عطر فارغة.
 

استقل أبو إبراهيم مقعده من السيارة في صمت، ثم انطلقوا وانطلق معهم صراخ الباقين، يبكون كأنما كتموا البكاء طويلا، يبكون اليوم والأمس، يبكون ويتحركون بلا وجهة، ينظرون في أعين بعضهم ويهزون رؤوسهم بأن "لا"، في إشارة أدركت منها عدم تصديقهم لما يحدث واستنكارهم لهذا الكم من المحن التي تصيبهم بضرباتها تتراً، لم يهتم أحدهم بمرتادي الشارع، الكل يبكي كما لم أرَ بكاء من قبل، بكاء يدفعك بصدقه وحرارته للمشاركة ويستفز منك التعاطف.
 

وقفت أشهد المقل الباكية وأنا مستيقنة أن ملائكة تحوطها، وقلت لنفسي أن هذا موضع رحمة فإن الله مع المنكسرة قلوبهم، ولعل وجودي بشرفتي في محيطهم يعرضني لنفحة من نفحات رحمة الله لهم، ولعل ملكاً كريماً ممن حولهم يرفني بجناحه رفة ما أحوج نفسي إليها، فأجد بها في الأرض لمسة من نور الله..
رفعت يدي إلى الله أدعو، ثم غادرت شرفة منزلنا وكلي يقين بأن شارعنا في هذه الليلة لن يذق نومًا، ولا أقصد بالشارع سكانه وقاطنيه بل أرضه وبناياته وأشجاره وزهوره وكل الأشياء التي هي على البشر أحن من بعضهم على بعض..

اختفى إبراهيم بين أجساد الكبار، ثم سقطت عليه عيناي يتحرك باتجاه باب البناء، استقر هناك والأمهات أمامه يودعن بعضهن والفتيات ينتحبن، ويرددن "يارب".

غادرت الشرفة إلى الداخل وقد أرهقت نفسي، وثقلت روحي، حتى جسدي شعرت به منهكًا، وحل بقلبي مع الحزن خوف لم يسبق أن سكنه قط، خفت ثورة الأرض التي شهدت انكسار قلوب الصغار على سطحها الليلة، خفت أن تزلزل من تحتنا جميعاً علها تحرك قلوبنا التي فاقت حجارتها ثباتا وقسوة، خفت انهيار الأرض لتنتقم ممن مشوا فوقها وشهدوا عبرات الصغار الحارة ثم استكملوا طريقهم نحو مساعيهم ولم يتأثروا، أو يعيدوا ترتيب أفكارهم!
 

تنافس الخوف والحزن على إهلاكي ليلتها، ثم أصابني تحول عجيب لم أدرك كيفيته، فلم أنتبه إلا وقد انقلب خوفي وحزني صدقاً وحباً كاللذين ملآ قلوب هؤلاء الصغار، ووجدت فيهما ما يهدئ روعي ويقتل حيرتي، ويملأني يقيناً بأنهما الأقوى والأبقى، وبأنهما السلاح الرابح ولو طال زمان حربه.

لم يخفف حزني في تلك الليلة إلا إيماني بأن أولئك الذين فتنوا بالسلطة، والذين جنوا بالذهب، والذين هلكوا بالشهوات ما صنعوا ذلك إلا بطمع عابثٍ منهم أن يَرْشُوا رحمة الله لتعطيهم في السلطة والذهب والشهوات ما نولَتْه هؤلاء الأطفال من نقاء وصدق يبكون بهما فراق رفاقهم، وإخلاص يمضي بهم إلى صفاء النفس وسعادتها الحقيقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.