شعار قسم مدونات

من تصاحبْ؟

blogs - friendship
في حياةٍ صارخةٍ تضجُّ بالصاخبين وتنضَحُ بالضجيج:
صاحِب الهادئين.. أولئكَ الذين لا يثرثرون إلاّ على مسامعَ من ورق، ولا يبوحون إلّا لمن في جعبةِ قلبه مكانًا آمنًا يتّسعُ للبوح، وهم في الغالبِ لا يجدونَه…
 
صاحِبْ المزاجيّين المعتدلين – وكلُّنا مزاجيّون- الذين لا يبالغون بمزاجيّتهم حدَّ التطرّف، فإن أقبلوا لا يُقبِلون حدَّ الانغماسِ والملل، وإن غابوا لا يغيبون حدَّ التلاشي والنسيان..
 
صاحِبْ الصادقين، أولئك الذين مارسوا فعلَ الصداقةِ عن ظهرِ قلب، والذين لم يتلطّخوا بعد بزيفِ المجاملات ودنَس المداهنات وكذبِ المشاعر.. اقترب من اللطفاء، أولئك الرقيقين الذين لا يجرؤون على خدشِ نملةٍ تسيرُ في هوادة، بل وقد يشفقون على مسيرها البطيء حتّى، وهي تحملُ ثقلَ المعيشةِ على ظهرِها، فيحملونها بقلوبهم قبلَ الأنامل، وينقلونها حيثُ شاءت دونَ أن يطالبوها بمقابلٍ أو يذكّروها بحفظِ الجميل..
صاحب الأوفياء، المحبّين، الذين تعمرُ المحبّةُ الخالصةُ قلوبهم.. أولئكَ الذين يفرحون لفرحِك، ويحزنون لحزنِك ويضيقون لضيقِك، ولا يتملّقونكَ حين تحلُّ بك المصائب، وحين يقلبُ لك الدهرُ صفحةَ الابتلاء التي لا بدَّ منها…

صاحب أهل القرآن أهل الله وخاصّته، ويكفيكَ بهذا شرفًا.. وكيفَ لا يكفيكَ أن ترافقَ أهلَ الله؟ أولئك البشر الذين اختلطت نبضاتُ قلوبهم بآياتِ القرآن.

صاحب الأصفياء، البسطاء، الشفّافينَ كقطرةِ ماءٍ تنسلُّ من السماءِ برفقٍ وليونة بلا أثقال ولا أحمال، ما خلا ثقل العطاء والريّ..
صاحب المراقبين – والمراقبون لا بدَّ منهم – المترقّبين لكَ خيرًا، الذين ينظرون خلف كلماتكَ الدافئةِ المُتعَبة ليفتّشوا عن حروفِ السعادةِ والأفراح لا ليتصيّدوا دمعَ المآسي والمعاناة..
صاحب الراضين، الذين لا يضرُّهم إن أنتَ اغتنيتَ أو اكتفيت.. بل ويضيرُهم إن قذفَ بكَ الزمان بين مخالبِ الحاجة المرّة، فلا يشمتون، بل يحاولون أن يتلقّفوك بوسع قلوبهم بكلّ إحسانٍ وحنان، وإن كانوا لا يستطيعون لذاك سبيلا..

صاحب الطيّبين، الذين تلمحُ نبرةَ الصدقِ في أعينهم، ولمعةَ المودّةِ الطفوليّةِ الجذّابةِ تلك…
صاحب صِغارَالروح، أولئكَ المتشبّعون بالطفولةِ حدَّ العمق، الذين لا يكبرون ولا يتبدّلون مهما دارت بهم الأيام دورتها المرّةَ السريعة، والذين كلّما مرّت بهم سنين العمر يزيدون ألقًا وبهاءً ودهشةً ومودّة إلى أن يفيضوا؛ ويظلّون أطفالًا أبرياء لا تنطفئ شمعةَ أحلامهم ما قدّر الله لهم أن يظلّوا..

صاحب الحقيقيّين، الواضحين، الذين لا يختبئون مؤقّتًا خلفَ ستارِ شاشةٍ افتراضيّة ليتلصّصوا ويترقّبوا.. فيظهِرون أنفسهم ما إن تدبَّ فيك رياح الألمِ مرّةً واحدة وتعصف بك، ليشمتوا ويقدّموا العزاء المصطنَع، وليظهِروا الحزنَ المتبلّدَ الذي يسكنُ الفرحُ خلف ردائهِ البالي الرديئ… وحين تصيرُ ريحُ الآلامِ عنكَ بعيدة، وحين تهبُّ رياحُكَ أنتَ وتغتنمُها، تراهُم يفرّون منكَ فرارَ الطريدةِ من الموتِ المحتّم.. فيختفون، ويتبخّرون، وتذهبُ ريحهم!… فلا تسمعُ لهم صوتًا ولا ترى لهم انعكاسًا على وجهِ الأماكن… يتطايرون حولكَ كالشرر ويتناثرون كما تتناثرُ أوراقُ النَعوةِ المُشبَعةِ بالحبرِ الأسود حين تُرمى في الريحِ هكذا دفعةً واحدة، لأنّها لم تعُد تجدُ حيطانًا لتَعلَقَ عليها وتلتصقَ بها عُنوَةً…

صاحب الموزونين، المسالمين، الذين لا يُرضيهم ضُرُّك ولا يُمرِضُهم شفاؤُك..
صاحب الخيّرين، الذين يحبّون الخيرَ للناس، ولا يتملّقون عند النوازل والأحداث الصعبة، ولا يتتبّعون عثَراتِ المصابِ وسقطاتِهِ كي يشمتوا بمصابِه..
صاحب المبدعين، الذين لا يُضيرهم إبداعكَ ولا يخيفُهم تقدّمُك، بل ويعاهدونكَ أبدًا على حسنِ السماع، ويعطونكَ مِلأَ قلوبهم وهم في أشدّ الحاجة لمن يعطيهم أذنًا واحدةً مصغية..

صاحب الصريحين، الذين يقولون كلمةَ الحقِّ بلا أستار، فلا يمارون ولا يتحايلون، ولا يميلون ما بينَ بين ويتأرجحون على الحدود..

صاحبْ أهلَ الذكر، الذين لا تفترُ قلوبُهم ولا ألسنتُهم عن ذكرِ الله.. أولئك الذين اندمجت أنفاسُهم مع أذكارِ الصباح وأذكار المساء وما بينهما… أولئك الذين لا يرون نفعًا من حياةٍ لا يُذكَرُ فيها اسمُ الله.

صاحب الناصعين، الممتلئينَ بياضًا، الدافقينَ بالمحبّةِ كالثلج.. الذين يحبّون من يحبُّك ويقرّبونه، ويبتعدون عمّن يُؤذيك، ليس ظلمًا ولا تَبعيّةً، بل لأنّهم عرفوا أنّ من يؤذيكَ يؤذيهم لأنّهم مرآتُ ذاتكَ ليس إلاّ…
صاحب الأطفال، فإنّهم خُلقوا هكذا جاهزين، كاملي الدهشةِ والمحبّةِ والحلم.. لأنّهم صادقون، ولأنّهم لا يخفون مشاعرهم ولو لمرّة، وإن أخفوها أخفوها لخوفٍ أو لضعف، لا لخبثٍ أو نفاقْ..
صاحب الصالحين، الذين يريدون الله وحده، فيخافونَهُ ويرجونَهُ ويستقيمون كما أمرهم الله، ويتّقونه حقَّ تُقاتِه.

صاحب المغبِطين، الذين يحبّونك في الله ولله، ويأخذون بيدكَ في سبيل الله، ويشدّونك دومًا نحو الأمام فلا يُفلتون يدكَ لحظة لأنّهم يريدون أن يوصلوك ويصلوا معك..
صاحب الخاشعين، الذين لا تتوانى أعينهم عن أن تفيض من الدمع عند سماعِ آية، ولا تتعالى قلوبُهم عن الخشوع، والذين يدعون فيُستجابُ لهم، لأنّهم أنقياء!
صاحبْ أهلَ القرآن، أهل الله وخاصّته، ويكفيكَ بهذا شرفًا.. وكيفَ لا يكفيكَ أن ترافقَ أهلَ الله؟ أولئك البشر غير العاديّين الذين اختلطت نبضاتُ قلوبهم بآياتِ القرآن واندمجت سريرتهم بعلانيتهم حتّى صارا وجهان لعملةٍ واحدة..

ومجدّدًا، عُدْ وصادق أهلَ القرآن، فلا بدّ أنّ القرآن قد أثّر فيهم أيّما تأثير وصفّى أجوافهم من الأدران والعوالق والشوائب التي لا نفعَ منها… وكن منهم إن استطعت، وإن لم تستطع فتشبّه وقلّد علّك تَصِل…
صاحبْ أهلَ الذكر، الذين لا تفترُ قلوبُهم ولا ألسنتُهم عن ذكرِ الله.. أولئك الذين اندمجت أنفاسُهم مع أذكارِ الصباح وأذكار المساء وما بينهما… أولئك الذين لا يرون نفعًا من حياةٍ لا يُذكَرُ فيها اسمُ الله في كلّ آنٍ وكلِّ حين… أولئكَ الذين عرفوا الله حقّا فأحبّهم وأحبّوه، وأدخلهم الجنّةَ ضاحكين!

صاحب الأطفال، فإنّهم خُلقوا هكذا جاهزين، كاملي الدهشةِ والمحبّةِ والحلم.. لأنّهم صادقون، ولأنّهم لا يخفون مشاعرهم ولو لمرّة.

صاحِبْ المبتسمين البشوشين، أصحاب الوجوه المطمئنّة، والعيون التي تنطقُ بالبريق…
صاحِبْ المتواضعين بتوازن، الذين لا يصعّرون خدّهم للناسِ ولا يمشون في الأرضِ مرَحًا، لهؤلاء فقط هَب قلبكَ، وامنح ثقتَك، واخفِض جناحَك، وانفتِح ثم حلِّقْ… مع هؤلاء فقط كن ذاتَك، فأنتَ حتمًا لن تقدرَ أن تكونَ إلاّ ذاتِكَ مع أشباهِها…

بهؤلاء فقط تمتّع، وافخر، وافرح، وامنَح واعلم أنّكَ بالغٌ الخيرَ عاجلًا ثمّ آجلًا، لأنّكَ لن تُحسدَ، ولن تُصابَ بصيبةِ عينٍ، أو بخيبة أملٍ، أو بصدمةٍ، أو بشرارةِ حسدٍ متسلّلةٍ هاربةٍ من بقيّةِ أخواتِها… هؤلاء، وهؤلاء فقط، هم حصادُ عمرِك، فاغنَم بهم إن استطعتَ وانعم.. فإن غنمتَ هنيئًا لك، فقد ضمنتَ صلاحَ الصحبةِ وسلامةَ الصدرِ وحياةَ القلب..

وإن لم تَجدهم بين أصحابِكَ وافتقدتَ وجودهم بين الرفاق، استبدلهُم، وائتِ بغيرهم قبل أن يستبدلوك ويختزلوا وجودك من حياتهم وذاكرتهم الصَدِئة… وإن لم تجِد البديل، فازهد بروحكَ، واسكُن غربتَك، وصادق كتبَك ودفاترَك، ورافق أقلامَك والكتابة، وسامر الخلوةَ والعزلة،.. تجد السكينة، وتعِش سعيدًا هانئًا آمنًا مطمئنًّا بعيدًا عن (الأعدِقاء!!)…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.