شعار قسم مدونات

الكتابة.. نختزِلها فتختزِلنا

blogs الكتابة

إنّ الإدمَان في حقيقتِه غيرُ محصُورٍ في المخدّراتِ وحَسب، بَل يَتعَدّى ذلك إلى أن تُدمِن شَخصًا، مكَانًا، عَادةً أو حَتّى دُعاءً، كَمَا قد تُدمِن "الكتابة"… حتّى لوْ كُنت مجرّدَ هَاوي لا تتَعدّى كتَابَاته ذاكِرة هَاتِفه أو صَفحَاتِ المَواقِع الاجتماعية، لكنّكَ شيئًا فشيئًا ستتعوَّد الأمْر، حتّى أنّكَ ستكتُب في كُلّ لحْظَة وعن كُلّ حدَث، في أكْثر لحظَات فرحِك وفي أقصَى لحظَات يأسِك… هي حَالة لا تَدري كيفَ تأتيك ولا متى وأين، تأتيكَ على حين غفلة فبمجرّد أن يدقّ النّاقوس بداخلك ستهرع إليها مثلما يهرعُ الطّفل لأمّه، ولربّما ستكون الكتابة المتنفّس الوحيد لكَ في تلك اللّحظات. 

إنّ الكتابة ليسَت مجرّد كلماتٍ وحُروفٍ مترَابطة بشكلٍ منسجِم، تصوّر حَالات الحُبّ والفَقد، الحَرب والثّورة، اليَأس والأمَل وغيرهَا من الثّنائيّات التي قد نختَزلهَا فيهَا… بل تَتَعدّى ذلك لتكُون جُزؤك المَبتُور ولربّما كُلَّك في لحظَة مَا! كلّمَا كتبتَ أكثر كلّما شَعرت بأنّك تفقِد جُزء منكَ، كأنّك تعرّي نفسَك ليَراكَ النّاسُ من الدّاخل، هي لحَظاتُ مخاضٍ لميلادِ نصٍّ جديد.

 

ستتحوّل خلالهَا من حَالتِك الطَبيعيّة إلى شَخصٍ آخر، غامِض، انطِوائي، غريبِ أطوَار، شخصٍ لا يُطاق انفَصَل عن العَالم الواقعِي لينغمِسَ في عَالمٍ من الخَيَال حيثُ يبدأ "الإلهَام"، أين سيحِيكُ ما بدَا له مِن رِوايَات وأحْداث ليَعيشَ تفاصِيلهَا لحظَة بلحظَة بَعيدًا عَن عالمٍ يَفرضُ عَليه وقائعَه ويخضُعُه لنَوامِيسِه، وهُنَا على الكَاتب أن يُهيّأ لهذه اللّحظة المكَان والظّرُوف المُلائمة التي تشكّل في مُجملِها طُقوسَه الخَاصّة والتي تَختلفُ من شَخصٍ لآخر. 
 

تصبِح الكِتابة بالنّسبَة للنّسبة الغالبة ممّن يقعُون في هَوس الكتَابة أشبَه بسِلاحٍ ذو حدّين، حدّه الأوّل يواجهُون به عَالمِهم الذي انفَلت مِن بينِ أيدِيهِم لينتصب لهم كعدوّ، أمّا الحَدّ الثَّاني فيبحَثون بِه عن شُهرة تشفي غَليلهم ورغْبتهِم في وضع بصمَتهم في الحَياة، بصمَة الخُلود

فَور أنْ تنتَهي منَ الكتَابَة يشِيخُ الزّمَن مِن جَديد، تعُود أنتَ إلى حَالتكَ الطّبيعِيّة والحَياة إلى رتَابتِها. فالأحدَاث التي خضْتهَا في ذاكَ العَالم بكلّ تفاصِيلهَا رغْم أنّهَا قد تخْلقُ عندَ البعضِ أفكارًا جديدة، أو قد تدفُعهُم لاستنباط حُلول مُختلفة للقضَاء على الرُوتين اليومِي إلاّ أنهَا قد تجرّ البعضَ الآخر إلى عَالمِ الإدمَان، فيُصبحُ التّلذذ بالخَيال هوسًا ومتعةً للهُروبِ من الحَياة اليَوميّة وحَتّى من العَلاقَاتِ الاجتماعية، فتتَحوّلُ الكتابة إلى مُخدّر يُرافِق العُزلَة ويؤمّن للكَاتب مؤنسًا خياليًا يصعُب الاستغناء عنهُ. هُنا تصبِحُ العَلاقة بين الإدمَان على المخدّرات والإدمَان على الكتَابَة مقرونَة بمشَاعر النّدم، التوتّر والعصَبيّة… لأنّهَا تبقَى في دائرة المتعة دون أن تتحوّل إلى عملٍ يُترجِم مٌحتواهَا إلى أهداف قيّمة وقد ينتهي بك الأمر في "حالة اكتئاب" لن تخرجَ منها بسهولة. 

ثمّ إنّك لو حَاولت الهُروب من الكتَابة إلى القرَاءة لوجَدت نفسَك تدور في حَلقة مغْلقة آخرِهَا يؤدّي إلى أوّلِهَا. فالقراءة سَتشحن رغبتَك في الكِتابة، ستولّد لكَ أفكارًا وتأمّلاتٍ جديدة. ستقتبسُ من أفكَار الكَاتب أو حتّى تشكّل رأيًا مخالفًا لرأيه، لكن يكفِي أنّه سَيثير بطَريقة أو بأخْرى شيئًا ما بدَاخِلك يدفعُك للكتَابة، إلى التأمّل أكثر فأكثر، ستكتب وتكتب وكلّما كتبتَ سَتغرق في التّفاصِيل أكثَر وهنَا قد تقعُ مُجددًا في الفَخّ. 

و في تفسِير سِرّ انتشَار عَدوى هَوسِ الكِتابة يذكُر الفيلسُوف كُونديرَا ثلاثة أسبَاب: فأوّلُ سببٍ حسبَ توصِيفه يعُود إلى ارتفَاع مستوَى العيش عَامّة وهو مَا يَسمح للنّاسِ بتعَاطي نشَاطٍ أكثَر تفاهَة بحثًا عن شُهرة زَائفة لم تُحقّقها لهُم ثرواتهم الطَائلة، أمّا السّبب الثّاني فهو التفتّت والتشتّت في الحَياة الاجتمَاعية، ممّا قد يؤدّي إلى دَرجة عَالية من العُزلة لدى الأفرادِ وأخيرًا خلوّ الحَياة الخَارجيّة من أي تغيرات أو أحداث بارزة وهذا مَا أراه من منظوري أكثر دلالة بالنّظر لعدد كِبار الكتّاب والروائيّين.

أمّا النّسبة الغالبة ممّن يقعُون في هَوس الكتَابة خَاصّة من فئة الشّباب ما هو إلاّ وَليدة العزلة العَامّة، وذلكَ من أجل خلقِ عَالمِهم الخَاصّ لوضْع حَدٍ للرّتابَة في حَياتهِم، والهَوس بدَوره يَزيد العُزلة ويفَاقمُها. ذلكَ أنّ كُل فَردٍ يَسعَى ليُحيطَ نفسِه بنصُوصِه وكلمَاته كمَا لو كَان يَحبسُ نفسَه داخل فقاعَة من زجَاجٍ عَازلٍ تمامًا لكلّ المؤثّرات الخَارجيّة. فتصبِح الكِتابة بالنّسبَة لهُم أشبَه بسِلاحٍ ذو حدّين، حدّه الأوّل يواجهُون به عَالمِهم الذي انفَلت مِن بينِ أيدِيهِم لينتصب لهم كعدوّ، أمّا الحَدّ الثَّاني فيبحَثون بِه عن شُهرة تشفي غَليلهم ورغْبتهِم في وضع بصمَتهم في الحَياة، بصمَة الخُلود!
 

جوهَر الكتَابة هو أن يستَنفذَ الكَاتب حيَاته سَعيًا وَراءَ الإبدَاع ولئن اضطرّهُ هذا إلى الابتعاد وخلق مسافة مع الآخرين لكن لا يعني العزلة التامّة عنهم، وليجعل من تلكَ العزلة المؤقتة عزلة إيجابيّة تُنتج أفكارًا تُترجَم إلى أفعالٍ

وفي هذا التّفسِير "الكُونديري" فِيهِ تقليلٌ مِن شأنِ الكتَابة واختزَالٌ مقيتٌ للذّات المُبدعَة، لأنّه ربطَها بعلّة خارجيّة وكذلك فعَل الهَوس. ولذلكَ حتّى تكفّ الكتابة على أن تظلّ مجرّد هروب وهوسٍ خارجيّ عليها أن تُتَرجَم إلى عملٍ يغيّرنا، بل إنّ كلّ عَملٍ أنتجنَاه بأنفسِنا لابدّ أن يتركَ أثرًا فينا لا محَالة، يغيّرنَا ويغيّر تصوّرنا للحياة نحو الأفضل، فتُصبِحُ بذلك متعلّقةً بالذّات بل تكَاد تذوبُ هذه الذّات في العَمل الإبدَاعيّ نفسه الذي أنتَجَتهُ، أُكتب عنِ النّجَاح لتكُونَ ناجحًا، وعن التّفاؤلِ لتواصِلَ حرُوبَكَ الصّغيرة معَ الحيَاة وعنِ كلّ ما يبعث الأمَل في قَلبِك ويلملمُ جرحَك فيضفي فيكَ لا عليكَ، أكتُب شيئًا يستحقُّ القراءة واجعل النّاس يرَونَ أفعالاً تُترجمُ تلكَ الكتاباتْ… وهذا بالضّبط ما يوافقُ تصوّر موريس بلانشُو حيثُ قال: " إنّنا لا نكتبُ بحَسبِ ما نكونُه بل نكونُ بِحَسب ما نكتُبه". ومنه علينَا التّفريق بين الكتابة الهوسيّة الخارجَة عن السّيطرة وتلك المحفّزة للإبداع.

وهنا نَصِل إلى جوهَر الكتَابة وهو أن يستَنفذَ الكَاتب حيَاته سَعيًا وَراءَ الإبدَاع ولئن اضطرّهُ هذا إلى الابتعاد وخلق مسافة مع الآخرين لكن لا يعني العزلة التامّة عنهم، وليجعل من تلكَ العزلة المؤقتة عزلة إيجابيّة تُنتج أفكارًا تُترجَم إلى أفعالٍ تمامًا مثلُها مثل العُزلَة التي نَختَلي فيها مع الله، تكُون مؤقتة إيجابية تشحن همّتنا وطَاقتَنا للانطلاق من جَديد، ثمّ إنّ الإبداع في معناه الحَقيقيّ هو أن تفرضَ أعمَالكَ وتأمّلاتكَ الفكريّة على النّاس بدَل حَياتكَ الخاصّة وتفاصِيلكَ اليَوميّة. وهذا الجوهر مَا وصَل إليه كبار المُبدعين أمثَال نيتشه وكَافكا وهيدجر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.