شعار قسم مدونات

قوة الأمومة

blogs الأمومة

هن مشرقات رغم ما يبدو عليهن من تعب، قويات رغم ما يحكين عن أيام الشقاء وليالي السهر الطويلة. قد يكون سِحرًا ما يتلبسهن مع بدء تكوين جنين جديد بداخلهن وكأن قلوبهن وروحهن تزهر وتشارك في عملية الخلق، كأن روحهن تكتسب روحًا جديدة مُستمدة من المخلوق الراقد بجانب قلوبهن. كأن هالة من نور تحيط بهن بمجرد أن تبدأ الرحلة.

قد يكون سِحرًا يمسهُن، كأن نفخ الله في الروح التي بداخلهن ونفخ معها حنانًا غير مشروط، العيون تتغير والنظرات تتغير، الابتسامة تتغير، أكاد أجزم أن ملامحهن تتبدل، ربما تلين قليلًا، تزداد نورًا، تزداد إشراقًا، وتزداد قوة. ما يفعلونه عظيم، والمجهود جبار، والمسؤولية أكبر، أن يتمثل مفهوم الأمان لهذا الكائن الصغير فقط بين يديها، فهو لا يعرف غيرها، فقد دامت معرفتهم شهورًا طويلة، وفجأه يتزلزل العالم من حوله وتفور المياه وينفتح باب العالم المجهول، يُصاب بالذعر، فيخرج وهو مُشتاقًا لك مثلما هي تشتاق له، مُشتاقًا ليرى تلك التي احتوته واحتضنته أيامًا طويلة بداخلها، مُشتاقًا للأمان من جديد. فهي مصدر أمانه الأوحد. فأي مسؤولية هذه. 

أتلفت حولي لأجدني مُحاطة بأمهات جميلات صغيرات يبدأن رحلة جديدة تمامًا عليهن، تجمعاتهن لا تخلو من تفاصيل لا شأن لي بها على الإطلاق، ولكن ما يُثير إعجابي هو رؤية هؤلاء الجميلات وهن يتحرين الدقة في كل شيء يخص تلك الروح التي صارت مسؤوليتهن، يتشاورن، يتبادلن الخبرات، يتناقشن، ويروين تجاربهن الناجحة بفرحة طفولية، وأخطائهن بندم وحزن حقيقي.

 

تندهش لرؤيتهن وهن يخطين خطواتهن الأولى مع أبنائهن كأنك ترى شخصين يكبرا معًا، يتخطيا العثرات والعقبات معًا، يد بيد حتى تمر التجربة بسلام. اليد الكبيرة تحتوي الصغيرة، واليد الصغيرة تشجع الكبيرة لاقتحام عالمها الصغير واكتشاف ما يحويه من تجارب جديدة. كم هو مُدهش أن تحتوي حياة الطفل الصغير على هذا الكم من الخبرات الذي تكتسبه الأم، وكم هو مدهش أن يستقي ذلك الطفل خبراته من ردود أفعال أمه تجاه المواقف التي وضعها فيها، وكأن حبل سُري سري ربط بينهما من جديد. 
 

في ظل حديث لا ينتهي وتفاخر بقوة النساء العاملات المُعيلات، ننسى من تحارب أيضًا حتى وإن كانت حربًا تبدو تقليدية ومرت بها الآلاف بل المليارات من الأمهات، ولكنها حربًا ذات طبيعة خاصة، حربًا تحوي كافة التفاصيل

كل منهن لها تجربتها الخاصة جدًا مهما بدت تفاصيلها متشابهة، فكل أم تضفي على التجربة لمحة من روحها، يبدو عليهن الخوف الشديد من الفشل في تلك التجربة، تعيش في قلق دائم؛ فهي تقلق من الأكل الجديد، تقلق من نومه الكثير، تقلق من بكاؤه الكثير، تقلق من قلة نومه، تقلق من صمته، تقلق من صوته العالي، كل شيء وكل تفصيلة مثيرة لقلقها. حتى نفسها تخشاها، تراقب تصرفاتها وكلامها ونومها واستيقاظها، طعامها وشربها وتحركاتها. تخشى كل شيء، وتتحمل ما لم تتخيل أن تتحمله يومًا، كأن حتى نفسها تتغير، ومعايير الحُب والكُره لديها تتغير، أظن لم تتخيل إحداهن قط أن تقوم بتغيير الحفاضات وأن تتحمل تلك الروائح وهي سعيدة ومُبتسمه، بل أن تبتهل إلى الله أن تجد في البامبرز ما إن استشعرت رائحته من بُعد يومًا لتقيأت حتى تطمئن على صحة طفلها، أن تحفظ عن ظهر قلب فوائد كل نوع من الخُضروات والفاكهة، أن تقرأ في غذاء كافة المراحل العمرية حتى تضمن غذاء متكامل لطفلها ومناسب لعمره، وهي التي كان لها اشتراكا خاصًا في كُشك الحلوى الذي كان على ناصية شارعها. 

في ظل حديث لا ينتهي وتفاخر بقوة النساء العاملات المُعيلات، ننسى من تحارب أيضًا حتى وإن كانت حربًا تبدو تقليدية ومرت بها الآلاف بل المليارات من الأمهات، ولكنها حربًا ذات طبيعة خاصة، حربًا تحوي كافة التفاصيل من تكتيكات لأسلحة، لاستعدادات واستخبارات، حربًا على مستوى عالمي، لو اجتمعن أمهات العالم بأكمله في مكان واحد لأجزمن أنها الحرب الأقوى والأجمل التي خاضوها على الإطلاق والتي لن يتحمل الدخول فيها عُمداء وجنرالات أقوى جيوش العالم. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.